وبعكس ما يميل إليه الشعور العام اليوم من نزعة إلى تسويد صفحة الماضي القريب، لم تكن حقبة التحول الوطني العاصفة الأولى حقبة فقيرة بالإصلاحات والتجديدات والمكتسبات الاجتماعية والسياسية والعلمية والثقافية.
فقد شهدت هذه الحقبة تحولات كبيرة على جميع المستويات بدءا بتغيير البيئة النفسية التي كان يعيش فيه العرب كأفراد وجماعات منذ دخولهم في العصر الاستعماري وانتهاء بتحديث الهياكل والبني الاجتماعية مرورا ببناء مؤسسات الدولة الحديثة وإرساء أسس التحول الصناعي وتحديث الإدارات وبناء المنظومات التعليمية الوطنية وتوفير الخدمات الصحية والاجتماعية الأخرى للسكان ودمجهم في سياق وطني واحد.
وقد أشرت إلى تغير البيئة النفسية في المقام الأول لأن تأثير ذلك كان عاملا قويا في تحرير المجتمعات العربية، أفرادا وجماعات، من روح التسليم بالأمر الواقع والاستسلام للقضاء والقدر نتيجة حال العبودية التي كرستها عقود طويلة من الاستبداد السلطاني وما أضاف إليها السقوط تحت السيطرة الاستعمارية من شعور بالدونية والعجز عن مسايرة الحركة التاريخية.
لقد كان الاستقلال أول إنجاز يعيد إلى الشعوب التي عرفت القهر والذل لقرون طويلة الثقة بالنفس ويحثها على استعادة أو استنبات مفاهيم وقيم المسؤولية التاريخية والسياسية ويفرض عليها أخذ مصيرها بيدها وقد ارتبط باستعادة الثقة بالنفس والتصالح مع القيم التاريخية والتعود على فكرة الشعب الحر المسئول عن مصيره إعادة بناء الهوية على أسس أآثر ديناميكية.
ومكنت حركة التحول الشاملة الفرد من تجاوز التماهيات أو استراتيجيات التماهي العائلية والعشائرية والطائفية العصبوية القديمة التي كانت تعبر عن الركود الاجتماعي والاقتصادي العام وضعف التواصل بين مكونات المجتمع وغياب الاقتصاد الحديث نحو استراتجيات تماه وطني عام.
وبعكس ما تشير إليه تحليلات بعض المؤرخين المعاصرين، لم يصطدم هذا التماهي الوطني مع التماهي القومي العربي الذي انتشر بشكل كبير في حقبة الستينات من القرن الماضي بل كان أساسا له.
فما كان من الممكن انطلاقا من الشعور العشائري أو الطائفي الارتقاء نحو شعور عربي يجمع آل الناطقين بالعربية.
وبهذا المعنى جاءت الهوية العربية كامتداد للهويات الوطنية وتعزيز لها بقدر ما رسخ أمل الوحدة العربية الشعور بالقدرة على مجاراة قيم العصر وتحقيق التنمية الاقتصادية وتأكيد السيادة والاستقلال والندية والمساواة مع المجتمعات الكبرى الأخرى.
وفي إطار هذه الثقة المتجددة بالنفس وبالمستقبل وبقدرة الشعوب على بناء أوطان حديثة مشابهة للأوطان الحديثة الأخرى نشطت النخب الوطنية الجديدة، بشقيها الليبرالي والاشتراكي، في تعميم مبادئ الدولة الحديثة وتعزيز مؤسساتها التنفيذية والقضائية والتشريعية.
وهكذا ترافقت الاستقلال بإقامة الجمهوريات في القسم الأكبر من البلدان العربية وتبنت النخب معايير حديثة للفصل بين السلطات وتطبيق مبدأ استقلال الدولة عن الدين، حسب شعار الدين الله والوطن للجميع، وما يعنيه من مساواة جميع المواطنين مبدئيا أمام القانون، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والفكرية.
وحتى عندما ألغت النخب الراديكالية القومية هذا الفصل بين السلطات لم تتراجع عن تأكيد استقلال الدولة عن السلطة الدينية.
وشهدت المجتمعات العربية تحولات عميقة في نظمها الاجتماعية والتعليمية والصحية.
وقادت السياسات الاشتراكية والاجتماعية إلى تقليل الفوارق بين الطبقات وتراجع كبير في معدلات الفقر جعلت من العالم العربي حتى الثمانينات من أفضل المناطق في العالم في عدالة توزيع الدخل.
آما بذلت حكومات المنطقة في ذلك الوقت جهودا بناءة في سبيل نشر التعليم الحديث وتعميمه وإدخال المرأة في الحياة العامة... يتبع
بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية.