لا يشكل مجموع ردود الأفعال هذه بالتأكيد إستراتيجية عقلانية ومتسقة لمواجهة تحديات العولمة الفعلية ولا يعبر عن وجود أجندة عربية خاصة لها ومن باب أولى أن يساعد على اكتشاف الفرص التي تفتحها.
إن ردود الأفعال هذه لا ترى في العولمة سوى المخاطر، ولا تفكر فيها إلا من وجهة مراكمة الوسائل النفسية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والإستراتيجية لدرئها.
ويتوج آل ذلك ويعبر عنه الموقف السلبي العام الرافض للعولمة في المجتمعات العربية والنازع إلى النظر إليها من منظار تطور المؤامرات والخطط الاستعمارية الغربية للنيل من استقلال العالم العربي وإخضاع دولة ومصالحه للمصالح الإسرائيلية في هذا السياق لم يكن من الممكن بالتأكيد بلورة أي مشروع عربي ايجابي، وطني أو قومي، لاستثمار فرص العولمة أو السعي إلى المشاركة الفعالة في نشاطاتها.
ولم يبدأ التفكير في النشاطات المرتبطة بها إلا في وقت متأخر مع اكتشاف 12 الحركات المناهضة للعولمة التي تحولت إلى حركات العولمة البديلة، حيث وجد بعض المثقفين والناشطين العرب موقعا لهم في سياسة العولمة ومسارها. ولا تزال الفكرة السائدة في العالم العربي، على المستوى الرسمي والشعبي معا، تدفع إلى المطابقة بين العولمة والاستعمار أو السيطرة الأمريكية الإسرائيلية على المنطقة وبالفعل لا يمكن لغياب أجندة عربية للمنطقة إلا أن يحول أي انفتاح على الخارج أو تجاوز للأطر الوطنية إلى جزء من مشروع إعادة الهيمنة الأجنبية وتجديد مشاريع بناء النظم الإقليمية شبه الاستعمارية أو نصف الاستعمارية المرتبطة، استراتيجيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا، بمصالح الدول الكبرى وتوجهاتها.
ومن الطبيعي أيضا أن لا يكون بمقدور مثل هذه المشاريع، حتى لو قامت على أسس جديدة، أن تقدم فرصا كبيرة لحل المشكلات العالقة من الحقبة الوطنية، ولا في إيجاد الحلول للمشاكل الجديدة التي تخلقها الثورة التقنية.
ولذلك ما كان لتقدم مسيرة العولمة في المنطقة إلا أن يدفع بقوة نحو تفجير أزمة المجتمعات العربية ويهدد توازن واستقرار جميع المؤسسات والبني الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية فيها.
وهو ما يشجع على تكثيف الضغوط والتدخلات الخارجية من جهة وتفاقم العنف الثقافي والسياسي والعسكري الذي يمثله رد الفعل من جهة ثانية.
وهو ما تعيش المجتمعات العربية ذروته اليوم بعد اجتياح القوات الدولية للعراق وتصاعد وتيرة التهديدات الإرهابية والخوف المتزايد الذي يدفع النظم العربية إلى الاحتماء بالولايات المتحدة والانضواء تحت لواء الكتلة الأطلسية تفجير العالم العربي أو آثار دخول المجتمعات العربية في عصر العولمة لم تكن حقبة العولمة حقبة سعيدة بالنسبة للعالم العربي، لا ككتلة ولا كأقطار متفرقة.
فقد كان عليه أن يتحمل أآثر من جميع المناطق الأخرى القسط الأكبر من أعباء إعادة بناء النظام العالمي الجديد أحادي القطبية، وما ارتبط ولا يزال يرتبط ويمكن القول بالإجمال إنه وإن تمكنت بعض الدول على به من صراعات دموية ومنازعات اقتصادية وإستراتيجية المستوى الفردي من تحقيق بعض المكاسب الاقتصادية المؤقتة، إلا أن العالم العربي آكل قد خسر على طول الخط من جراء بروز ديناميات العولمة الراهنة التي تجسدت آثارها الرئيسية في تعميق الفجوات ومكامن النقص والتناقضات التي آانت موجودة من الحقبة السابقة، وفي أحيان كثيرة تفجيرها تدويل الأمن الوطني والإقليمي وتهديد الاستقلال من هذه الفجوات، الفجوة الإستراتيجية التي تشير إلى تراجع شروط الأمن الخارجي بالمعنى القومي أو الإقليمي والوطني القطري على حد سواء.
فمما لا شك فيه أن العالم العربي قد شهد تدهورا خطيرا في هامش استقلاله ومبادرته القومية، أي الشاملة.
وهو ما يتجسد في إغلاق أفق بناء تكتل سياسي عربي يضمن الأمن الجماعي ويؤكد مشاركة العرب في تحديد سياسة إقليم الشرق الأوسط ومستقبله. فمنذ الآن أصبحت مشاريع الشرق الأوسط الكبير أو الشراكة المتوسطية التي تقسم البلاد العربية بين متوسطية وغير متوسطية، هي الوحيدة المطروحة على جدول العمل الإقليمي، من دون أي أمل بالتحقيق الجدي أيضا.
وفي المحصلة غياب أي أفق للتكتل الحقيقي سواء أقام على أسس التقارب العربي أو التقارب الإقليمي، بين البلدان العربية.
كما شهد العالم العربي تدهورا خطيرا أيضا في ميدان الأمن الوطني الخاص بكل بلد عربي. وهو ما يعكسه انهيار التفاهم العربي وتفجر النزاعات العربية العربية والحروب الأهلية التي فتحت البلدان العربية أمام التدخلات الخارجية ووسعت من دائرة انتشارها ورقعتها مع تحويل العالم العربي إلى ساحة واحدة للحرب العالمية على الإرهاب وبالتالي للحرب الإرهابية.
وهكذا فقد العالم العربي عنصري الأمن والاستقرار الذين لا غنى عنهما في أي تنمية إنسانية، بما في ذلك التنمية الاقتصادية . وشهد عصر العولمة العربي أيضا تعميق علاقة التبعية التي حاولت الحركة الوطنية والقومية السابقة المستحيل من أجل قطعها وضمان الاستقلال الوطني وتأكيد السيادة الشعبية.
فالعالم العربي يعتمد اليوم في استمرار أمن دوله ونظمه السياسية واستقراره الاقتصادي وتأمين حاجاته التقنية والعلمية والصحية والثقافية، بل في بقاء دوله نفسها أو بعضها، على ما يتلقاه من دعم خارجي أو من حماية أو وصاية أجنبية فقد نشأت الدول العربية في حضن النظام الاستعماري القديم وسعت فور الخروج من تحت السيطرة الأجنبية إلى الانضواء تحت راية منظمة إقليمية هي الجامعة العربية.
وبالرغم من أن هذه المنظمة لم تتسم بالكثير من الفعالية السياسية ومن باب أولى العسكرية، إلا أنها قدمت للشعوب العربية مظلة إقليمية عززت من هامش مبادرتها الوطنية آما شكلت منتدى سمح للدول العربية بمناقشة خلافاتها والتوصل إلى تسويات لا ترقى إلى درجة الحلول للنزاعات ولكنها تفضي إلى تخفيف التوترات والحفاظ على مظهر الإجماع العربي.
وقد جاءت حركة الوحدة العربية في الستينات وما ارتبط بها من قوة شعبية لتعزز الشعور بالمصير المشترك لدى المجتمعات العربية وتقوي الانتماء لمجموعة واحدة كبرى ذات مصالح متقارية، ولها مصلحة في العمل المشترك، وربما تكوين كتلة إقليمية مؤثرة في وقت ما.
وقد شكل التعاون في المسألة الفلسطينية نوعا من الصدقية لهذه الكتلة القائمة بالقوة إن لم يكن بالفعل... يتبع
بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية.