حيدر حسين سويري
برز العراقيون في كتابة المرثية الشعرية، لا سيما المنطقة الجنوبية من العراق، حيث لهم طريقتهم الخاصة من حيث الكلمة واللحن والأداء، فانفردوا بالرثاء الحسيني، وكل من تبعهم فإنما هو مؤدي لمراثيهم ام مشتق من طريقتهم ...
في هذه الأيام تمر على المسلمين، وخصوصاً الشيعة الاثنا عشرية منهم، ذكرى استشهاد الامام موسى بن جعفر الكاظم ، وهو امام عند جميع الفرق الاسلامية، لكن خصوصيته عند الشيعة الامامية الاثنا عشرية أنهُ الامام السابع من الائمة الاثنا عشر، هذا الامام تعرض للظلم والسجن عدة مرات من قبل الحاكم العباسي، حتى دس له السم في سجنه الأخير (طامورة السندي بتاريخ 25 رجب 183 هـَ)، ثم أخرجه ووضعه على قارعة جسر بغداد، ميتا من أثر السم ...
شاهدت مؤخراً فيديو لإحدى القارئات للمراثي (ما تعرف بالملاية) مع مجموعة من النساء يرددن معها، حيث تبدأ بقولها (عراضه ع الجسر عباس سويله – تعال ابيرغك للكاظم وشيله) وهنا نجد عدة معاني في هذه الردة (كما يسمونها) نتطرق لمعانيها في هذه النقاط:
تربط الراثية بين استشهاد الامام الكاظم وواقعة الطف الأليمة (استشهاد الامام الحسين واهل بيته)، في معركة جسدت أروع أنواع البطولة والوفاء بالعهد لدى جميع جيش الامام.
تختار الراثية الامام العباس وذلك لموقفه البطولي في تلك الواقعة، من حمل الراية ونصرة أخيه وامام زمانه، حتى اخر رمق له، ذلك الموقف البطولي الذي خلده التاريخ بأعجب صورة للإيمان والوفاء بالعهد والميثاق، ودليلا واضحاً للتربية الصالحة.
تبدأ الراثية بكلمة (عراضه) التي تعني رفع الراية والايذان بالاستعراض العسكري، والعراضة تعرف عند عشائر مناطق جنوب العراق بالخصوص، بقيام مجموعة من الرجال بالاستعراض، من خلال حمل الرايات والسلاح وإطلاق الاهازيج الحزينة أو التشجيعية التي تشد من عزم الرجال في المعارك، وفق إيقاع معين، اثناء مراسيم تشييع الابطال من الشهداء، او الأموات ذوي الشأن والجاه، أو في المعارك كما اسلفنا؛ في هذا البيت رسمت الراثية صورتها الشعرية بموقف الامام الكاظم عليه السلام وحيداً فريداً، ليس له مشيعاً يرفعه على الاكتاف، ولا رجال يستعرضون في تشييع جنازته، بالرغم من كونه اسد بغداد وطبيبها وسيد بني هاشم والشيعة بالعموم، وغرابة هذه الصورة في ندبها العباس المستشهد سنة 60 ه، فكيف لها ان تندب رجلا قضى نحبه قبل استشهاد الامام بـ 123 سنة؟ والجواب هو: أولا: لآنهم يعتقدون أن الامام العباس مازال حياً كأبيه علي بن ابي طالب استناداً للآية القرآنية (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ [البقرة: 154]) ويطلقون على كليهما (حاضر الشدات) لما شهدوه من كرامات لهما ولسائر الائمة والانبياء والصالحين. أما الأخرى: فهي إنما تذكر ببطولة العباس عليه السلام فتستنهض الهمم لبني هاشم والشيعة بالعموم للنهوض وأخذ موقف في مناهضة الظلم كما فعل الامام الحسين وأخيه العباس وسائر الائمة عليهم صلوات الله وسلامه.
تقول الراثية في المقطع الثاني من الردة بل تنادي الامام العباس (تعال)! بالرغم من أنه من زمن غير زمن الامام الكاظم، وهي أيضاً في زمن غير زمنها، الا انها تجعل من الزمان واحداً، فتجعل من نفسها حاضرة عند الجسر كأنها ترى الامام مسجى، ثم تندب العباس عليه السلام كأنما هو يسمعها فيلبي ندائها، ما أغرب وأجمل هذه الصورة!؟
إن الاغرب والاعجب، والاظرف والمبكي في نفس الوقت، في هذا البيت الشعري، هو ندب الراثية لشهيدٍ لنصرة شهيدٍ آخر! الله أكبر كم هو جميل هذا الوصف، وكم هي جميلة هذه الصورة الشعرية، التي تبين شجاعة الاثنين وأنهما لا يستحقان القتل، لنبلهما وما يحملانه من صفات فوق الإنسانية، بل صفات ربانية بحتة.
للشعر بصورة عامة، وللمراثي بشكل خاص، وقع كبير في الوجدان البشري، بل حتى الحيواني والنباتي، الكل يتأثر بنبرة الحزن التي تثيرها تلك المراثي، فتخرج ما هو كامن من ألم وحسرة وحزن الى خارج الجسد المتألم، من حال الدنيا وتقلباتها، فيخرج ذلك الالم عن طريق البكاء والصراخ واللطم وغير ذلك، مما يبعث الراحة النفسية وانتعاش الروح وشحذ الهمم وبيان صورة الحق، كما انها تروي لأحداثٍ حصلت، فتؤرخ تلك الاحداث بصورة درامية خالدة عبر الزمن، ماضيه وحاضره ومستقبله، ولولا المراثي لضاعت واندثرت أغلب الملاحم التاريخية.
بقي شيء...
أتمنى أن يكون الشاعر مدرك لما يكتب ويرسم من صورة شعرية، كما أتمنى من المتلقي والمستمع ان يفهم المقصد من قول الشاعر، لا ان يؤل كلامه كأنه فقيه او مشرع ديني، إن شاعر المراثي كما باقي الشعراء، تارة يبعث الامل والمتعة وتارة أخرى يطرق باب الحزن والفرح وهكذا، بل كل ما يتعلق بفنون ومشاعر الوجدان لدى الكائنات الحية، لذلك فليتعامل المتلقي مع شاعر المراثي على انه شاعر فقط، ولا ينصب له محكمة، وبكل تأكيد توجد شواذ لا يخصهم كلامنا هذا.