صباح الزهيري
يغلي دمَ العراقيين إذا تعرَّضت رموزُهم الثقافيةُ للمساس , أولئك لآلئُ لا يجودُ الزمانُ بمثلها كل يوم , نحبُّها وننقل حبَّها لأبنائنا ونحفظها في أعلى مراتبِ الذاكرة , والمبدع كتلةُ نوازع , وتاريخُ البلد والمنطقةُ مرجل يفور بالتناقضات منذ مائةِ عام , ومع خرابِ السّياسة في العراق وكارثةِ المحاصصةِ الطائفية لم يعد أمامَنا سوى المراهنةِ على الثقافة , تجمعُنا القصيدةُ واللوحةُ والمنحوتةُ والأغنيةُ وشواهدُ حضاراتِنا العريقة . غرباء حلوا في بلد غريب جاءوا في سياحة استثمارية , أحد ذيولهم تطاول على عبد الرزاق عبد الواحد وقال عنه أنه مجرد شاعر من مدرسة التكسب , وكأن المتنبي لم يقال عنه :
(( السامق شعرا , والوضيع تكسبا )) , فما عدا مما بدا ؟ ثم أردف : ((أن عبد الواحد لعب على العاطفة, وصوّر الحرب قطعة حلوى )) , وأستشهد بأعز اهزوجة وطنية على قلوب العراقيين (( توكع زلم فوك الزلم لمن يشيب الراس)) , وأعتبرها كلمات مرفوضة , وأن تسويق الحرب بوصفها قطعة حلوى تغري الآخرين هي جريمة , وأنه إنسانيا يقف ضد كل قصيدة تروج للحرب والموت أو أن تكون قصيدة تعبوية فقط , مما يجعلنا نعتقد ان مفهوم الوطنية لدى هؤلاء هو الخضوع والذلة وتبويس لحى الغرباء .
حديث كنعان مكية مع جريدة الشرق الأوسط : ((غلطتي الكبيرة كانت أنني أسأت تقدير المعارضة العراقية التي اشتغلت معها ودعمتها بعد حرب 1991, لم أكن أتخيّل على سبيل المثال أنه لا يوجد واحد من أحزاب وشخصيات المعارضة المختلفة الذين تعرفت عليهم جميعاً , لا يوجد بينهم أحد لديه نفس عراقي أو حس وطني , لو تلاحظ أن كل الجماعات التي صارت جزءاً من مجلس الحكم مع (بول) بريمر لم يكن حتى اسم العراق موجوداً في أسمائها , عدا المؤتمر الوطني العراقي , غلطتي كانت أنني لم أقيّم هذه القوى في حينه ولم أحس بضعف وحتى غياب حسّهم الوطني العراقي)) , تشخيص موثق من كبيرهم الذي علمهم ودعمهم ثم عض أصابعه ندما , وأعتذر .
ولكن هذا المتطاول على الأعلام الوطني لم يكن من المعارضين , فهو من مواليد 1980 فكيف تخمرت لديه الفكرة , وأخذ العبرة ,ليصل الى هذه المواصيل ؟ ان حالة الانفصام التي يعيشها غالبيّة مكوّنات المجتمع العراقيّ جراء سريان ثقافة التجهيل التي ارساها الغازي المحتل وذيوله , لا يمكن أن تكون نهاياتها آمنة , ولهذا ينبغي العمل لتدارك ومعالجة الظواهر الغريبة عن الإنسان والمجتمع بسرعة وحكمة , ونحن الذين كنا قد أعددنا للوطن كل مابوسعنا , ان نكون نبراسا يضيء درب مستقبلنا الآتي , لم يكن يضيرنا أن نشتعل
.
((وَطَنٌ عَشِقْنَاهُ فـكانَ دليلَنا للعالمينَ،
بـأَنَّنا شُجعانُ
فالعشقُ أَوَّلُ ما يكونُ شَجاعةٌ..
ما خاضَ شوطَ العاشقينَ جبانُ)) .
وجد المتنورون في عبد الرزاق عبد الواحد وثقافته وشجاعته نموذج المواطن حامل الأمل, رجل يمتلك حريته , التي وشحها برجاحة عقله لا بأحجبة مصطنعة , عراقي سليل رجال ونساء قاوموا في الأرياف وفي المدن على امتداد القرن الماضي لبناء عراق حضاريّ مستقل , قوي ثريّ مضيء في منطقته , يلهم الوطن العربي بمواهب أبنائه الرواد من الشعراء والنحاتين والرسامين والمعماريين والمسرحيين والمطربين وصانعي الجمال . وطالما إن الوطن هو الذاكرة , لنذكر هذا المتطاول بأننا من جيل فتح أعينه أواسط القرن الماضي على جيش من المتعلمين من الجنسين , يشمّرون عن سواعد مباركة في التربية والاقتصاد والهندسة والطب والصناعة والزراعة ومختلف الحرف والمهارات , وكان هناك سلاح منضبط شامخ يحمي كل ذلك , نغني له في مدارسنا : الجيش سور للوطن , ذهب الملايين من أبناء وبنات الأميين والأميات إلى المدارس ودخلوا الجامعات وسافروا في بعثات . كان الوطن يكبر بهم ويتوهج ويشق مكانه في عالم واسع سريع التطور .
يعترض الظلاميون على شاعر قال :
((ويحلمونَ ببغدادٍ.. برامكةً.. بمجدِ هارونَ في بغدادَ ينهدِمُ ..
ويخسأونَ فبغدادَ التي عرِفوا.. تبقى تُعَلِمُ كسرى كيفَ ينهَزِمُ ..
نهزُّ فيهم نخيلَ الروحِ عَلَّ بهِم .. بقيةٌ من تُقى سلمان.. لا سَلِموا)) .
عندما كنا صغار كان لكل شيء رائحة كانت توجد رائحة الدخول المدرسي , رائحة نهاية الأسبوع , رائحة القيلولة وبعد العصر , رائحة الصباح الباكر , هل كبرنا وضعفت حواسنا ؟ او ان الروائح لم يصبح لها وجود بعد انطلاق الرائحة الفاسدة لكارهي الوطن .
والصبر لو كان في محض الأذى كرم
لكن على الذل صبراً..كيف يا جـملُ ؟!
وأنتَ تنظـرُ , والأبصارُ شاخصةٌ
إليكَ .. والغـدُ , والتاريخُ , والمـُثـُلُ
ماذا ستفعل ؟.. هل صبراً كسابقِهِ ؟
إذن فمـوتكَ أجـدى أيـهـا الجمـلُ !