بقلم أ.د هاني الياس خضر الحديثي
عقود من الزمن مضت ، شاعت في العالم العربي خلالها وغالت العواطف على حساب العقل وحسابات الواقع واعتمادها اساسا في انجاح البرامج الوطنية والعربية عبر التأجيج الشعبوي وتوظيف الولاءات القومية والدينية ، حتى ان البعض ممن يخرج على القنوات الفضائية او في مراكز البحوث والدراسات العربية نراهم يتخلون عن حسابات الواقع والعقل ، وينساقون خلف العواطف عن دون قصد أو ارضاءا لمن تهمهم مصالحه لينشروا او يروجوا لسيناريوهات مشروعة ولكن تغلب عليها العاطفة وتنقصها الحسابات العقلانية الامر الذي ضيع على شعوب العالم العربي الفرص في انجاز تلك البرامج والمقاصد المشروعة .
هكذا بعضهم نظر أو ينظر للصراع مع الكيان الاسرائيلي وكأن الكيان بقعة جغرافية داخل فلسطين متغافلين عن كونه متغلغل في عقل الاستراتيجيات الدولية وخاصة منها الغرب وعقوله الاستراتيجية التي صنعت الكيان، وبالتالي فان الصراع معه هو ايضا صراع يشمل الولايات المتحدة والعالم الغربي أو اغلبه، وهذا ما سعينا في مراحل متقدمة للتأكيد على خطأ هذا المنهج عبر ابرازنا لمحطات تأريخية مهمة وخطيرة ابرزها اهمية تحليل ماورد في مؤتمر كامبل 1905-1907 وماتبعه من سايكس بيكو ووعد بلفور . وفي كل مرة نتهم من قبل اصحاب العاطفة الثورية بالردة والرجعية وماشاء الله من مصطلحات الذين غابت أو غيبت عقولهم لصالح الرؤى والايديولوجيات المحلقة في سماء من تطلعوا للنجوم وتغافلوا عما امام اقدامهم من حفر ومزالق ليذهبوا ومعهم من يتبعهم نحو اعماق البئر. الان وفي هذه الفترة من الزمن تكشفت الاوراق ولعبة التخادم الاستراتيجي بين اسرائيل وقوى اقليمية مستفيدة (ترفع شعارات القدس والاقصى ) ، والقوى الدولية الفاعلة خارج نطاق مصير قضية فلسطين والامة كلها ، حتى وصلت مرحلة تقاسم النفوذ بين اكبر قوى اقليمية تحيط العالم العربي وتحت علم وتخطيط قوى دولية فاعلة في مشهد الصراع العربي -الاسرائيلي لتبدأ بينهم عمليات المساومات ومحاصصات مناطق النفوذ ، موظفين الاطراف الداخلية التابعة لهم ، وضمن ذلك بدء الحوارات حول مستقبل ماهم مختلفين عليه كالبرنامج النووي الايراني ومساحات نفوذ القوى الاقليمية الكبرى . لذلك فأن من يزعم حرصه والحفاظ على هوياته الوطنية والقومية الان، عليه اعتماد العقل في التفاعل بعيدا عن (العنتريات الفارغة) التي اثبتت التجارب أنها غالبا ما تؤدي الى هلاك شعوبها وأنها نتجت وتنتج عن قرارات خاطئة.
الاكثر خطورة ، أن الموضوع لن يتوقف عند هذا الحد، بل يتعداه لإعادة ترتيب بلدان الشرق الاوسط جميعها والتي تشكلت أثر اتفاقيات سايكس بيكو . ومع عودة ترامب للرئاسة الامريكية فان المرحلة المقبلة كما يبدو ستشهد سيناريوهات توظيف تداعيات وما نتج عن الحرب في شمال وجنوب فلسطين للعودة الى اطروحات الشرق الاوسط الجديد وضمن صفقة القرن التي باتت تطرق الابواب بعد تهيأة الاجواء المناسبة لها وربما بصيغ معدلة تتناسب والتغيرات المهمة اقليميا ودوليا. منذ عقود والانظمة وبعض القوى العربية تستعجل في قرارات مصيرية غير محسوبة ونتائجها معلومة ؛ كارثة تتبعها كوارث والسؤال : متى يستفيق العقل ليغلب العواطف ؟ في ضوء ذلك ارى مجيء الرئيس ترامب، لتكون مرحلته مختلفة عن تناقضات ادارة بايدن حيث ان الفرق بين الحقبتين ليس في الاستراتيجية المرسومة من قبل دوائر عملية القرار السياسي مسبقا، انما في تكتيكات الوصول للهدف، وستكون المرحلة المقبلة في الشرق الاوسط وفق تصوري ، مباشرة وواضحة لا تحتاج لشعار يرفع علنا ليطبق نقيضه عمليا . فهل يستيقظ العقل العربي ليدرك مالذي يراد، وكيف ينبغي ان يتصرف تجاه التحديات الخطيرة المقبلة؟؟؟ لقد آن الاوان لاعتماد منهج واقعي عملي يسعى للتفاعل اقليميا ودوليا تحقيقا لمقاصد مشروعة وفق مبدأ الخطوة خطوة أو خذ وطالب .