
ولاء العاني
كان الفصل لا يزال صيفًا، والساعة تقترب من السادسة صباحًا. وكعادتنا، استيقظنا باكرًا على نهج والدي الذي كان احد ضباط الجيش العراقي السابق، الذي ربّانا على الانضباط واليقظة منذ الصغر .
كنا ما نزال في دهشة وذهول. سماء بغداد العزيزة كانت تمتلئ بطائرات حربية تحلّق على ارتفاع منخفض، لم تكن عراقية، كما أكد والدي، بل تحمل رائحة الخطر والغدر. فجأة، دوّى في الأفق صوت غريب لم نألفه من قبل. دقائق قليلة، وإذا بوالدي، الذي غادر المنزل لتوّه، يعود مسرعًا وهو يصيح بأمر واضح :
"انبطحوا فورًا على الأرض واحموا رؤوسكم!"
هكذا بدأ المشهد الأول من ثماني سنوات من الحرب والدمار والعدوان، حربٌ لم تكن موجهة فقط إلى الجيش أو الجبهة، بل طالت المدنيين، وطالت الذاكرة والهوية والتاريخ. حرب لم أنسَ دقائقها الأولى أبدًا، وكأنها طيف ثقيل يلازمني إلى اليوم، يرفض أن يغادرني، يصرّ أن يُروى.
لقد شهدنا في تلك السنوات الثمان أبشع صور الإجرام: قصفٌ عشوائي، اعتداء على الأسرى، وزجّ الشباب الإيرانيين في المحرقة، تلبيةً لنداء دجالٍ لبس عباءة الدين، وهو لا يمتّ له بصلة. دجالٌ رُفع على منبر الثورة، وتكلم باسم العقيدة، وهو لا يحمل إلا فكرًا حاقدًا، شعاره الظاهر تصدير الثورة، أما باطنه فكان تصدير الحقد والموت.
كانوا يهتفون:
"إذا يريد الإمام حرب، فحرب. وإذا يريد سلم، فسلم."
جعلوا عقولهم أداة بيد هذا الطاغوت، وسخّروا الدين لمآرب سياسية وطائفية، لم تعبأ لا بوحدة الأمة، ولا بحرمة الدم، ولا بقدسية الجوار. ومرّت السنون . خمسة وأربعون عامًا كلمح البصر. وازددنا ثباتا ويقينا ان العراق وقيادته كانت على حق والدجال واذنابه هم الباطل .
