فن تحرير النفس من قيود الأفكار الخاطئة

أحد, 09/28/2025 - 15:20

محمود الجاف

يُقال إن الجحيم ليس مكانًا، بل فكرة . وإنّ ما يعانيه الإنسان ليس دائمًا ما يحدث له، بل ما يعتقد أنه يحدث له . فكم من روح أنهكتها تصورات مشوّهة؟ وكم من نفس أثقلها عبء أفكار لم تُختبر، ولم تُراجع، ولم تُسأل؟

 

نحن لا نرى العالم كما هو، بل كما نعتقده . وهذه الاعتقادات، إن تركناها دون فحص، تصبح قيدًا غير مرئي وسجنًا داخليًا يصعب الهروب منه . في أعماق كل منا يكمن صوت خافت، يشكّك، يسأل، ويبحث عن المعنى . هذا الصوت هو بذرة الفيلسوف فينا، وهو ما حاول سقراط أن يوقظه حين كان يجوب شوارع أثينا، لا ليُعلّم، بل ليسأل . لقد آمن أن الجهل لا يكمن في عدم المعرفة، بل في الاعتقاد أننا نعرف وأن الطريق إلى الحقيقة يمر عبر الشك النبيل والسؤال العميق . فما الذي يمنعنا اليوم، نحن أبناء العصر السريع والقلق المستمر أن نستخدم هذا الإرث الفلسفي لإنقاذ أنفسنا من المعاناة؟ لماذا ننتظر أن تُنهكنا الهموم وتستنزفنا الأعراض النفسية قبل أن نلتفت إلى أفكارنا؟

 

لماذا نختار الذل على أبواب العيادات بدل أن نبدأ أولاً بمواجهة صادقة مع أنفسنا؟

 

هل حقًا نحتاج إلى طبيب نفسي ليخبرنا أن أفكارنا مبالغ فيها أو غير واقعية؟

 

أم أننا بحاجة فقط إلى أسلوب ممنهج وأدوات بسيطة وشجاعة داخلية للمواجهة؟

 

في رحلة الوعي الإنساني يكمن سر العذاب النفسي . الأفكار والمعتقدات ليست مجرد عبارات تمر بها، بل هي المايسترو الذي يدير ألحان مشاعرك وتصرفاتك . ومع ذلك، كيف نثق في كل ما يختلج في عقولنا؟ كيف نُفرّق بين الحقيقة والوهم؟ كيف لا نصبح أسرى لمعتقدات سلبية، تُعذبنا وتُهلك راحتنا النفسية ؟ .. إنه السؤال الذي أدى إلى ولادة أسلوب الاستجواب السقراطي . وهي طريقة سؤال عميقة تسمح لنا بفحص أفكارنا وتحليلها وتعديلها . وهذه الأداة ليست حكرًا على العلاج النفسي وحده بل نجد أصولها

متجذرة في القرآن وقصص الأنبياء الذين دعونا إلى التفكير والتأمل والشك البنّاء لننقذ أنفسنا من تيه الأوهام .

 

ما هو الاستجواب السقراطي؟

الاستجواب السقراطي : هو تقنية تُستخدم في العلاج المعرفي السلوكي لمساعدة المريض على تحديد وتحليل وتغيير المعتقدات السلبية الغير واقعية التي تؤثر على حالته النفسية وسلوكه . هو فن السؤال بهدف الاكتشاف، لا الجدل . إنه حوار داخلي منظم يساعدك على تحرير نفسك من التصورات المشوّهة التي تسبب لك الألم والمعاناة . ليس الهدف منه إقناعك بأنك مخطئ، بل أن تكتشف بنفسك كيف يمكن أن تكون مخطئًا أحيانًا، وأن هذا ليس عيبًا، بل طريقًا نحو النضج النفسي . وقد ثبت أنه يُخفف من أعراض الاكتئاب، القلق، والاضطرابات النفسية الأخرى . لكنه لا يحتاج بالضرورة إلى معالج أو عيادة . بل يحتاج إلى إنسان شجاع، مستعد أن يواجه نفسه، لا ليجلد، بل ليتحرر .

 

من القرآن إلى النفس : نماذج من الحكمة السماوية في الاستجواب العقلي 

 

لم يكن سقراط وحده من أدرك قوة السؤال، بل إن الأنبياء أنفسهم استخدموا هذه الأداة العظيمة في دعوة الناس إلى الحق . ومن أروع النماذج على ذلك : إبراهيم عليه السلام، الذي واجه قومه الذين عبدوا الكواكب والأصنام بالتأمل وليس بالصدام والسؤال والبحث العقلي الهادئ . في سورة الأنعام نرى كيف نظر إلى احد الكواكب، ثم القمر، ثم الشمس، متسائلًا :

 

﴿فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَآ أُحِبُّ ٱلْآفِلِينَ﴾ الانعام ، 78

 

إنه هنا يضع الفكرة تحت المجهر، يختبرها بالواقع والمنطق ويصل إلى النتيجة من خلال التأمل . هذه الرحلة العقلية تمثّل جوهر الاستجواب السقراطي : طرح السؤال، فحص الفكرة، الكشف عن التناقض والوصول إلى الحقيقة بنفسك .

 

ويوسف عليه السلام وحوار العقل في ظلمة السجن في هذه القصة درسًا آخر في فن الاستجواب والتأمل العلاجي . حين كان في السجن وسأله الفتيان عن تفسير رؤياهم لم يُجب إجابة جاهزة، بل استثمر الفرصة لطرح سؤال يستثير التفكير والتساؤل :

 

﴿ءَأَرْبَابٌۭ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَٰحِدُ ٱلْقَهَّارُ؟﴾ يوسف 39

 

انه هنا لا يُملي الجواب، بل يدعو إلى تمحيص المعتقدات ومقارنتها بنظرة عقلانية ومنطقية.

 

هذا الأسلوب يحفّز التفكير الذاتي ويساعد على الوصول الى القناعة الداخلية وهو تمامًا ما نحتاجه حين نواجه أفكارنا السلبية ونعمل على تعديلها .

 

لماذا تؤذي نفسك وأنت قادر على الإنقاذ؟

كم من مرة وجدت نفسك محاصرًا بأفكار سلبية متخبطًا في ظلمات نفسية وأنت تجهل أن مفتاح التحرر بين يديك؟

 

عندما تجد خللاً أو فكرة مرضية، لا تنتظر الحل من الخارج بل ابدأ بالإنقاذ الذاتي . واطرح على نفسك الأسئلة الصعبة، لا تخف من مواجهة ظلك، فبالحوار الداخلي المُنظم، تستطيع أن تهزم كل ما يعكر صفو نفسك .

 

كيف تستخدم الاستجواب السقراطي مع نفسك؟

 

1- تحديد الفكرة السلبية: كن واعيًا بما يدور في ذهنك من أفكار تزعجك.

2 - طرح أسئلة مفتوحة: مثل : هل هذه الفكرة صحيحة دائمًا؟ ما الأدلة التي تدعمها؟ ما الأدلة التي تعارضها؟

3 - التحقق من المصادر: هل هي رأي شخصي، خبرة سابقة، أو مجرد افتراض؟

4 - البحث عن بدائل: ما هي التفسيرات الأخرى الممكنة لهذا الموقف؟

5 - التقييم والتعديل : بناء على التفكير الجديد، عدل فكرتك بما يخدم صحتك النفسية .

 

إن الاستجواب السقراطي ليس مجرد تقنية علاجية، بل هو فلسفة حياة، دعوة مستمرة لتجاوز الأوهام، وتحرير العقل والنفس من قيود الأفكار المضللة . مثلما سار إبراهيم ويوسف عليهما السلام في دروب التفكير العميق، نحن مدعوون اليوم لأن نكون نحن أيضًا حكماء أنفسنا، لنُنقذها من العتمة، ونرسم لها طريقًا نحو صفاء لا ينقطع . فلماذا تؤذي نفسك وأنت تملك بيدك المفتاح ؟ ابدأ السؤال، وحرر نفسك، فقد يكون هذا هو بداية الرحلة الأجمل في حياتك .

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطراف