تأخر الرواتب مصيبة فقط على محدودي الدخل

أحد, 12/28/2025 - 19:45

 

 

الكاتب/ اسعد عبدالله عبدعلي

 

كان يردد في داخله: حين يشيخُ الشهرُ مبكراً.. عن الضائقة المالية الشهرية المزمنة التي تحصل له, سار خطوتُ نحو السوقِ, يجرُّ خيبات متراكمة، وفي جيبه بضعُ دنانير, هي كلّ ما تبقى من "دينٍ" استلفهُ من صديقٍ, بعد ان ضاقت به السبل هو الآخر, كان الدخول إلى السوق رحلةً اضطرارية لتأمين الرمق الأخير من الاحتياجات الضرورية، في زمنٍ بات فيه الراتبُ كقطعة ثلجٍ توضعُ تحت شمس تموز؛ يتبخرُ عند منتصف الشهر، تاركاً إيانا في مهبّ الديون والتدبير المرّ.

لكنَّ شيئاً ما كان يهمسُ بالغرابة؛ السوقُ الذي اعتدتُ زحام أجساده وتداخل أصوات باعتِه، بدا اليوم شاحباً وكأنه استيقظ من كابوس! المحالُّ مشرعة الأبواب، لكنَّ الوجوه غائبة، والممراتُ خاليةٌ إلا من أشباحِ العابرين. وقفتُ أمام شابٍ يملأ فراغ محله بملابس زاهية لم تجد من يلمسها، سألتهُ بنبرةٍ غلفها الاستغراب: "أين الناس؟ لماذا يبدو السوق مهجوراً هكذا؟"...نظر إليّ بعينين أرهقهما الانتظار، وأجاب بصوتٍ مخنوق:" الرواتبُ محبوسةٌ في أدراج الحكومة، والناسُ هنا محبوسون في دوامة العسر, حين تجفُّ الجيوب، تذبلُ الأسواق وتتوقفُ الحياة."

 وبينما كنتُ أحاول استيعاب الصمت الثقيل، وقع نظري على مشهدٍ مزّق قلبي: شاهدت رجلٌ وزوجته، يرتديان من الثياب أنظفها ومن الوقار أجمله، وقفا بصمتٍ أمام واجهة محلّ للدجاج المشوي. كانت رائحة الشواء تملأ المكان، وعيونهما تلمعُ بحسرةٍ مكتومة لا تخطئها العين؛ كأن جداراً من الزجاج يفصلُ بينهما وبين رغبةٍ بسيطة لا يملكان ثمنها.. لم يطُل وقوفهما؛ تبادلا نظرةً منكسرة، ثم انسحبا بوقارٍ حزين نحو دكان "فالح أبو العمبة". هناك، حيثُ الفلافل هي الملاذ الأخير للكرامة والبطون الجائعة، اشتريا لفافةً يتقاسمان فيها الصبر قبل الزاد، وغابا في زحام الهموم.

 

 

·             مصائب تأخير دفع الرواتب

يعد تأخير صرف الرواتب الشهرية للموظفين في العراق أزمة حقيقية, تمس صميم الاستقرار المعيشي والاجتماعي, حيث يرتبط دخل ملايين الأسر بشكل كلي بهذه المبالغ البسيط الذي يسمى بالراتب, لتأمين أدنى متطلبات البقاء, ويؤدي هذا الارتباك المالي إلى شلل تام في القوة الشرائية داخل الأسواق المحلية, مما يتسبب في ركود اقتصادي يلقي بظلاله على أصحاب المحال والمهن الحرة.

كما يضع الموظف تحت ضغط نفسي هائل, نتيجة عجزه عن سداد الإيجارات المتراكمة وفواتير الخدمات والديون التي استدانها لتسيير أمور حياته اليومية مما يولد حالة من الاحتقان الاجتماعي, وتراجعاً ملحوظاً في الإنتاجية الوظيفية, وشعوراً بعدم الأمان الوظيفي والمستقبلي, فضلاً عن إجبار الكثير من العوائل على تقليص نفقات التعليم والرعاية الصحية الضرورية, وهذا التذبذب يفتح الباب أمام زيادة المشاكل الأسرية, واللجوء إلى الاقتراض بفوائد تثقل كاهل المواطن, وتجعله يدور في حلقة مفرغة من العوز والحاجة المستمرة.

 

 

·            ضرورة دفع غرامة تأخير دفع الرواتب للمواطن

تعد المطالبة بفرض غرامة مالية على الجهات الحكومية أو المؤسسات, في حال تأخير صرف الرواتب حقاً قانونياً وأخلاقياً, يهدف إلى حماية كرامة المواطن واستقراره المعيشي, فمثلما تفرض الدولة غرامات على المواطن عند تأخره في تسديد فواتير الكهرباء أو الضرائب أو القروض المصرفية, فإن العدالة تقتضي التعامل بالمثل عندما تقصر الجهة المشغلة في الإيفاء بالتزاماتها المالية في الوقت المحدد.

حيث إن الراتب ليس منحة بل هو مقابل جهد مبذول وارتباطات حياتية لا تقبل التأجيل, وتكمن ضرورة هذه الغرامة في كونها تعويضاً مادياً عن الأضرار النفسية والمادية التي تلحق بالموظف, نتيجة تراكم الفوائد البنكية عليه أو اضطراره للاقتراض بأسعار باهظة لتسيير شؤون عائلته.

كما أن وجود تشريع يفرض غرامات التأخير سيعمل كأداة ضغط فاعلة لإجبار المؤسسات المالية والإدارية على تنظيم حساباتها بدقة, وتجنب التلكؤ في إطلاق المستحقات مما يعزز الثقة بين المواطن والدولة, ويضمن تدفق السيولة في السوق بشكل منتظم, ويحمي الاقتصاد الوطني من الهزات المفاجئة, ويضع حداً لسياسة التسويف التي تدفع ثمنها الطبقات العاملة وحدها.

 

 

·             الحلول المقترحة لتلافي أزمة تأخير الرواتب

تتمثل الحلول المقترحة لإنهاء أزمة تأخير الرواتب في العراق, في تبني استراتيجية شاملة تعتمد على تنويع مصادر الدخل, بدلاً من الاعتماد الكلي على الريع النفطي, الذي يضع الدولة تحت رحمة تقلبات الأسعار العالمية, كما يتطلب الأمر تفعيل الأتمتة الإلكترونية الشاملة للنظام المالي والمصرفي, لضمان سرعة انتقال الأموال بين وزارة المالية والبنك المركزي والمصارف المواطنة, بعيداً عن الروتين الإداري القاتل.

ويبرز أيضاً مقترح إنشاء صندوق سيادي خاص للطوارئ يُقتطع من وفرة النفط في أوقات الصعود يخصص حصرياً لتغطية الرواتب في أوقات الأزمات المالية, بالإضافة إلى ضرورة حصر الأعداد الحقيقية للموظفين من خلال نظام البصمة الموحدة, للقضاء على ظاهرة الفضائيين وتكرار الرواتب التي تستنزف موازنة الدولة دون وجه حق.

مع أهمية تعزيز القطاع الخاص ليصبح شريكاً في استيعاب اليد العاملة, وتقليل الضغط عن القطاع العام, مما يؤدي في النهاية إلى استقرار مالي, يضمن تدفق المستحقات في مواعيدها الثابتة, ويعزز من هيبة المؤسسات الحكومية أمام المواطن.

 

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطراف