
محمود الجاف
حين يعلو الوعي، تبدأ الأسئلة تتكاثر لتفتح نوافذ جديدة نحو الحقيقة. من أين جئنا؟ ما الغاية من وجودنا؟ هل للكون عقل؟ هل للإنسان روح تسكن الجسد أم أن الجسد هو كل شيء؟ وفي خضم هذه الأسئلة، يميل العقل المفكر إلى كل ما يعانق الوجود بمعنى، وكل ما يلامس النفس بشفافية. ومن العجيب وليس بعجيب أن كل من أوغل في علم من العلوم، سواء كان فيزياء أو أحياء أو علم نفس أو فلسفة أو فنًا، ثم التفت إلى القرآن بعين المتفكر، رأى انعكاسات من تخصصه فيه، وكأن هذا الكتاب العظيم يتحدث إلى كل علم بلغ منتهاه، وإلى كل عقل بلغ رشده. وإن من أكثر المواضع التي تظهر فيها هذه العجائب ما نستفتحه في صلاتنا، وما نكرره كل يوم مراتٍ ومرات :
سورة الفاتحة .
هي ليست فقط أمّ الكتاب، بل أمّ المعاني الكبرى، ومعراج النفس نحو التوازن، وبوصلة الوعي نحو خالق الوعي. ليست نصًا تعبديًا فقط، بل هي مرآة كاشفة لأعمق ما في النفس البشرية، ولأسمى ما في الفلسفة من قضايا؛ الوجود، الغاية، الأخلاق، المعرفة، المصير. فكيف استوعبت هذه السورة القصيرة تلك الإشارات الفلسفية والنفسية العميقة؟ وكيف تدلنا على أن هذا الكتاب، لا يمكن أن يكون من صنع بشر؟
دعونا نتأمل .
1 : الفاتحة والوجود : سؤال الفلسفة الأول .
في بداية كل تفكر فلسفي يطرح السؤال: من أين نبدأ؟ الفلاسفة البدائيون بدأوا من الوجود، من دهشتهم أمام الكون . وفي سورة الفاتحة، نجد أول جواب يصف الأصل المطلق للوجود :
"الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"
الحمد لا يُعطى إلا لمن يستحقه مطلقًا، في ذاته وصفاته، و"ربّ العالمين" صيغة جامعة للربوبية بكل أبعادها: الخلق، والهداية، والتدبير، والعناية . إنها إجابة على سؤال "من هو الموجود الأول؟"، ولكن ليست إجابة جامدة، بل تُحيي في النفس مشاعر التقدير والإجلال والطمأنينة . ففيها تناغم بين سؤال الفلسفة (من أين؟) وسؤال النفس ( لمن أنتمي؟ )
2 : الفاتحة والوعي الأخلاقي: الرحمة كقيمة عليا
"الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ"
القيم الأخلاقية في الفلسفة تُدرس من باب العقل، لكن في القرآن تُقدّم كأسماء إلهية، وكأن الله يخبرنا أن الأخلاق ليست فقط نظرية، بل هي انعكاس لصفاته في العالم. "الرحمن" صيغة شاملة لكل الخلق، و"الرحيم" تخصّ المؤمنين. هكذا تفهم النفس أن الرحمة ليست ضعفًا، بل أعلى درجات القوة الهادية. وهكذا يفهم الفيلسوف أن الخير ليس مُجرّد اتفاق بشري، بل له أصل إلهي .
3 : الفاتحة والعدالة الوجودية : معنى المسؤولية والمصير
"مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ"
العدالة موضوعٌ مركزي في الفلسفة، خاصة عند سقراط وأفلاطون، الذين تساءلوا: هل هناك عدالة مطلقة؟ وإن وُجدت، فهل يُحاسب الإنسان عليها؟
القرآن يُجيب بيقين: نعم، هناك يومٌ يُدان فيه الناس، وكل عمل محفوظ . وهنا يأتي التوازن النفسي : لست عبثًا، وكل ما تفعله له وزن، ومآل . وهذا ما يحتاجه الإنسان ليشعر بالمعنى، ويتجاوز القلق الوجودي .
4 : الفاتحة وتوجيه الإرادة : النفس في طريقها الصحيح
"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"
هنا تتجلى الحرية والإرادة والاختيار . النفس هنا تعلن قرارها : أنت وحدك يا رب مقصدي ومصدر عوني . الفلسفة تحلل الإرادة الحرة وعلم النفس يدرس الدوافع، لكن هذه الآية تلخّص كل ذلك في توجهٍ خالص: العبادة لله والاستعانة به . إنها ليست فقط عقيدة، بل علاج نفسي من التشتت والتعلق بالمخلوق وتحرير للنفس من أعباء الاستغراق في السيطرة والقلق .
5 : الفاتحة كدليل على الاحتياج الفطري للهداية
"اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ"
لماذا نطلب الهداية كل يوم؟
لأن النفس قلقة بطبيعتها وتبحث عن المعنى والاتجاه . هذه الآية تعبير نفسي عميق عن حاجة الإنسان المستمرة إلى النور . والهداية ليست فقط معرفة، بل سلوك واستقامة. إنها الربط بين الإدراك والعمل، بين العلم والنية، وهو لبّ الفلسفة الأخلاقية والنفسية السلوكية .
6 : الفاتحة والتصنيف النفسي الوجودي للبشر
" صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ"
هنا يأتي تقسيمٌ نفسي وجودي: من هم الذين على الطريق؟ من هم الذين انحرفوا؟
"المنعَم عليهم" هم من جمعوا بين المعرفة والعمل .
"المغضوب عليهم" عرفوا ولم يعملوا .
"الضالين" عملوا بلا معرفة .
هذا التصنيف الدقيق يتقاطع مع نظريات العقل العملي، ومدارس علم النفس المعنيّة بالانحرافات السلوكية والإدراكية . إنه وصف دقيق لحالات الإنسان في الحياة، وتوصيف لمساراته النفسية والعقلية.
الفاتحة. بداية لا تنتهي .
سورة رغم قِصرها، تفتح أبوابًا من التأمل الفلسفي، والتحليل النفسي، بشكل يعجز عنه أعظم المفكرين. ليست فقط مقدمة للقرآن، بل هي خريطة وعي متكاملة ترشد العقل والنفس إلى التوازن . ومن هنا نفهم سرّها العجيب : أنها فاتحة بلا خاتمة . فكل مرة نقرؤها، نجد فيها شيئًا جديدًا، فكرة لم ننتبه لها، إشارة لم ندرك عمقها. وهذا وحده كافٍ لأن نوقن ان هذا الكتاب ليس من عند بشر، بل من عند من خلق العقل والنفس ويهديهما بآياته .
"سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ."
