
تقرير: عبده بغيل | وكالة العرب
يمثل يحيى السنوار قامةً محوريةً ونادرةً في المشهد الفلسطيني، تتجاوز مسيرته حدود السيرة الذاتية لتروي فصول حكاية شعبٍ نسجها بالصمود والمقاومة. فمن رحم مخيم خان يونس للاجئين، الذي ارتوى من أوجاع النكبة، انطلق السنوار في رحلة عبور ملحمية تجسّد أعمق مفاهيم التحدي والقيادة، متوّجًا إياها بـ"طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023. ملقنا الكيان الصهيوني دروسًا عميقة في الهزائم .
1. النشأة والتكوين: ميلاد الوعي من مخاض النكبة
لم تكن نشأة السنوار (مواليد 1962) عادية، بل كانت صقلًا مبكرًا وسط محيط قاسٍ هو مخيم خان يونس. هذه البيئة، بكل مأساة اللجوء وأعباء الاحتلال، كانت هي البوتقة التي شكلت وعيه، وغرست فيه الإدراك العميق لجذور القضية.
صقل الفكر في الجامعة: انتقل هذا الوعي إلى رحاب الجامعة الإسلامية في غزة، حيث لم يكن طالبًا عابرًا (بكالوريوس في الدراسات العربية)، بل قائدًا طلابيًا صاعدًا ترأس مجلس طلاب الجامعة، ليؤكد امتلاكه الكاريزما والقدرة على التنظيم من مراحل مبكرة.
تأسيس الركيزة الأمنية: بتكليف استراتيجي من الشيخ أحمد ياسين، شارك السنوار في تأسيس جهاز "مجد" (منظمة الجهاد والدعوة) عام 1986. هذا الجهاز كان بمثابة النواة الصلبة والركيزة الأمنية لحركة حماس، ومهّد الطريق لتشكيل قدرات الردع والمواجهة الداخلية.
2. السجن: صقل القائد في معزل العزل (1988 - 2011)
أمضى السنوار 23 عامًا خلف قضبان السجون الإسرائيلية، لم تكن فترة عقوبة، بل كانت "جامعة داخل الزنازين"، شكّلت عقلية "القائد من خلف القضبان" الذي يجمع بين ثبات المبدأ ومرونة الاستراتيجية.
الثبات في مواجهة المؤبد: اعتُقل عام 1988 وحُكم عليه بأربعة أحكام مؤبدة، لكن صلابته تجلّت في محاولتي هروب فاشلتين أدتتا إلى سنوات طويلة في العزل الانفرادي، ما أظهر تصميمًا لا يلين في وجه اليأس.
تحويل السجن إلى مركز استراتيجي: استغل السنوار فترة اعتقاله بعبقرية نادرة، محولًا الزنازين إلى مراكز للدراسات المعمقة:
إتقان لغة الخصم: أتقن اللغة العبرية ودرس بعمق التاريخ اليهودي والذهنية الصهيونية، ليتمكن من فك شفرة العدو من الداخل.
المحلل الاستراتيجي: قام بترجمة وتأليف كتب تحليلية عن جهاز "الشاباك" والأحزاب الإسرائيلية، ما وفّر لحركته فهمًا استخباراتيًا غير مسبوق للعدو.
البعد الإنساني والفكري: كشف عن عمقه الأدبي والإنساني بروايته "الشوك والقرنفل" (نُشرت 2004)، متجاوزًا حدود السياسي والعسكري.
قيادة الأسرى: تولى قيادة كتلة أسرى حماس داخل السجن، مكرسًا سلطته التنظيمية وقدرته على إدارة ملفات شائكة في أصعب الظروف.
3. الزعامة: من أسير محرر إلى رأس الحركة في غزة
في عام 2011، خرج السنوار في صفقة شاليط، ليتحول من رمز للمقاومة داخل السجن إلى قائد مؤثر خارج أسواره. كان صعوده ضمن الهيكل القيادي سريعًا ومنطقيًا نظرًا لخبرته وعمقه الاستراتيجي:
التدرج المهيكل: انتخب عضوًا في المكتب السياسي، وتولى رئاسة الهيئة السياسية العليا في غزة، ثم تسلم منصب رئيس المكتب العسكري.
صانع القرار الأول: في فبراير 2017، تم انتخابه رئيسًا لحركة حماس في قطاع غزة، ليصبح بذلك صانع القرار الأول والمهندس الاستراتيجي للقطاع. لم يكن هذا مجرد منصب، بل هو تتويج لمسار نضالي وفكري، جاعلاً منه صوتًا استراتيجيًا لا يمكن تجاهله في المعادلة الإقليمية.
المقاومة حتى الرمق الأخير: أسطورة حية
في اللحظات التي سيطرت على مخيلة الملايين، بث جيش الاحتلال مشهدًا للسنوار من كاميرا طائرة مسيّرة: مقاتل جريح يواجه الدرون بعصا. كان جالسًا ملَثِّمًا وجهه المتعب بكوفية فلسطينية، وفي لحظة تجسيد لفلسفته "المقاومة حتى الرمق الأخير"، قذف المسيّرة بعصاه.
هذا المشهد تحوّل سريعًا إلى أيقونة عالمية للصمود. اضطر إعلام الاحتلال نفسه إلى الاعتراف بجسارة الموقف، وكتب بعضهم: "هكذا يموت الأبطال"، واعتبره آخرون "أسطورة مقاومة حية".
يمثل يحيى السنوار نموذجًا للقائد الذي تشكلت صلابته من طين المخيم ومعاناة السجن. إنه الاستراتيجي المنظم الذي يركز على بناء القوة الذاتية، والعقل التحليلي الذي يفكك بنية العدو عبر لغته وتاريخه. لقد أثبت أن القائد الحقيقي يستطيع صناعة الفرصة من عمق التحدي والعمل الميداني، مما جعله أحد أكثر الشخصيات تأثيرًا وإثارة للجدل في الساحة الفلسطينية المعاصرة.
