مرجعية الدستور العراقي وثوابت النظام الديمقراطي

اثنين, 10/20/2025 - 15:03

عادل الجبوري

   في مثل هذه الأيام، قبل عشرين عاما، وتحديدا في الخامس عشر من تشرين الأول-اكتوبر، خرج ملايين العراقيين منذ ساعات الصباح الاولى من بيوتهم متوجهين الى مراكز الاقتراع للتصويت على مشروع الدستور الدائم، الذي ساهم بصياغته وكتابته سياسيون وخبراء ومتخصصون يمثلون مختلف مكونات المجتمع العراقي.

  غالبية ابناء الشعب العراقي صوتوا بـ(نعم) لصالح مشروع الدستور، وكانت تلك رسالة بليغة ومعبرة وعميقة في دلالاتها ومعانيها عن تطلع العراقيين لطوي صفحات الديكتاتورية والاستبداد، وفتح صفحة جديدة مختلفة عن سابقاتها، ووضع اسس ومرتكزات سليمة وقوية ورصينة للعراق الجديد، وكان الدستور هو المحور وقطب الرحى.

   كان خروج العراقيين قبل عشرين عاما، والتصويت لصالح الدستور قد مثل تحديا كبيرا، اثبت شجاعة واقدام وارادة هذا الشعب، في خضم ظروف واوضاع امنية وسياسية كانت خطيرة وحساسة للغاية.

   ولم يكن الدستور في جوهره ومضمونه مثاليا، فقد ولد في ظل ظروف صعبة ومعقدة جدا، ومنذ البداية كان واضحا انه يحتاج الى  مراجعات عديدة واعادة نظر في بعض مواده، وهذا ما اتفقت عليه معظم الكتل والقوى السياسية المشاركة في العملية السياسية.

  ان وجود ثغرات وهفوات ومكامن ضعف لم تلغ قيمة الانجاز والمكسب الذي تحقق من خلال اقرار الدستور، اذ ان وضع اللبنات الاساسية والرئيسة للنظام الديمقراطي امر لابد منه من اجل الانطلاق والتقدم الى الامام، مع استمرار عمليات الاصلاح والتعديل والتغيير المطلوب، في اطار الدستور ذاته وتحت سقفه.

   ولعل المؤشر المهم على اهمية الدستور هو ان القوى التي وقفت ضده في باديء الامر، راحت فيما بعد تحتكم اليه وتعتبره مرجعا لها، وتدعو الاخرين الى الاحتكام اليه، وترفض القفز عليه او تجاوزه.

   واليوم فأن كل خطوة تتخذ في اطار الدستور ووفق ضوابطه من شأنها ان تسهم بتقوية وتعزيز النظام الديمقراطي التعددي في البلاد، وكل تحرك يتقاطع مع الدستور ويصطدم به، لايفضي الى الا اضعاف النظام وتعريضه للخطر، وبالتالي فأن ذلك الخطر ينسحب على الجميع.

   ولاشك انه في بلد مثل العراق يمتاز بتنوع نسيجه الاجتماعي والسياسي، لايمكن ادارة وتوجيه شؤونه بنجاح من دون مشاركة حقيقية من قبل كل الاطراف السياسية التي تعكس ذلك التنوع وتعبر عنه وتترجمه بصورة صحيحة على ارض الواقع.

  والعراق ليس البلد الوحيد في العالم الذي يحمل ميزة التنوع، فهناك بلدان اخرى تحمل نفس الميزة، مثل سويسرا، وبلجيكا، وهولندا، والولايات المتحدة الأميركية، وأستراليا، وكندا، ولبنان، وايران، ونيجيريا، وغيرها.

   والبعض من هذه الدول نجحت في التوصل الى صيغ مناسبة وملائمة لاستيعاب وتوظيف ذلك التنوع واستثماره بالشكل الصحيح للتقدم الى الامام وترسيخ مباديء وقيم الديمقراطية والحرية والعدالة والنهوض والازدهار، والبعض الاخر منها اخفقت في ذلك وفشلت لتعيش في دوامة الصراعات والنزاعات والحروب، وتبقى رازحة تحت وطأة الفقر والمرض والتخلف.

   والنموذج الاول سار في الطريق الصحيح من خلال تبني النظام الديمقراطي الذي صهر كل المكونات في بوتقة واحدة، وضمن حقوقا للجميع مثلما رتب واجبات على الجميع، ووفر فضاء واسعا لكل المكونات لكي تشارك مشاركة حقيقية، وفي كل المستويات، بأدارة شؤون البلد، لذلك نجد ان الحروب والصراعات الداخلية والمشاكل السياسية الحادة والاحتقانات التي تعطل مسيرة البناء، وتهدد مصالح الناس ليس لها حيز في الواقع العام، على العكس تماما من النموذج الثاني الذي اعتمد النظام الديكتاتوري الشمولي الاستبدادي، الذي يقوم على حكم وتسلط اقلية قومية او دينية او اثنية على مقدرات وشؤون البلاد واقصاء وتهميش كل المكونات الأخرى، واعتماد منهج القمع والتنكيل بحق الاخرين، بحيث تغيب كل مظاهر المعارضة والرأي الاخر، حتى وان كان طابعه سلميا  لايشكل تهديدا حقيقيا للسلطة والنظام.

   والعراق في عهد نظام البعث المقبور مثل النموذج الاسوأ للانظمة الديكتاتورية، فهو قمع الاكراد في الشمال، والشيعة في الجنوب والفرات الاوسط، والسنة في الموصل والرمادي وتكريت، والتركمان في كركوك، والمسيحيين في اماكن مختلفة، ولم يكن يمثل مكونا بعينه، ولم يدافع ويحمي مكونا بذاته، رغم انه كان يحاول دائما الايحاء بأنه يمثل طائفة معينة في مقابل طائفة اخرى، وقومية مقابل قوميات اخرى.

  وبعد زوال النظام الديكتاتوري كان من الممكن للعراق ان يكون نموذجا صالحا وحسنا للديمقراطية في بيئة اقليمية تعاني التخلف والقصور وضعف الثقافة السياسية الديمقراطية ، وشيوع ثقافة التسلط والقمع والاقصاء، ومازال ذلك الامر ممكنا ومتاحا رغم  الكمّ  الكبير من المشاكل والتحديات التي واجهها ويواجهها العراق من الداخل والخارج على حد سواء.

  تكريس مبدأ المشاركة الوطنية الحقيقية يمثل الخطوة الاولى لجعل العراق نموذجا  صالحا وحسنا للانظمة الديمقراطية في المجتمعات التعددية، والمشاركة الحقيقية كمبدأ، لابد ان تقترن بوجود دستور دائم يحظى بالقبول والاحترام، ويكون هو المرجعية السياسية والقانونية لشركاء الوطن، ولايكون عرضة للمساومات والصفقات السياسية التي تضمن مصالح طرف او اطراف معينة، في ذات الوقت الذي تهدد مصالح البلد برمتها وتجعلها في مهب الريح.

   واليوم، فإن الانتخابات البرلمانية المزمع اجراؤها في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني-نوفمبر المقبل، تعد خطوة أخرى نحو ترسيخ أسس ومرتكزات وثوابت النظام الديمقراطي، اذا ما أجريت في ظل أجواء سليمة، وسياقات قانونية صحيحة، بعيدا عن الاستئثار والاستغلال، والتشهير والتسقيط، والخداع والتضليل، وشراء الذمم والاصوات.

--------------------------- 

*كاتب وصحافي عراقي   

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطراف