سجون المرايا

ثلاثاء, 10/28/2025 - 14:26

محمود الجاف

في منازلنا تقبع غرف أنيقة لا تُستخدم. مفروشة بأفضل ما نملك، لكنها باردة كأنها بلا روح. تُجهز لاستقبال الآخر. الآخر الذي قد لا يأتي وقد لا يكون مهماً، لكنه دائمًا حاضر في وعينا، في قراراتنا، في أذواقنا، في ملابسنا، وحتى في ضحكاتنا. نعيش وكأننا في مسرح دائم، ننتظر تصفيقًا من جمهور لا نعرفه، لكننا نخاف حكمه، نخشاه، بل نُعيد تشكيل أنفسنا كل يوم لننال منه الرضا والقبول.

 

هذه ليست مجرد سلوكيات عابرة، بل هي ظاهرة متجذّرة، تحمل خلفها ثقافةً وتاريخًا ومرارات .. وأحيانًا، قدرًا من الحزن لا يُقال. ذلك الساكن في داخلنا. الآخر في ثقافتنا الشرقية ليس فقط الضيف الذي نزوره أو يزورنا، بل هو الامتداد الصارم لنظرة المجتمع لنا. هو الناس الذين نصغر أمامهم في كل خطوة لا تُعجبهم، ونتضخم فجأة عندما يُثنون علينا. نؤثث بيوتنا لهم، وليس لأنفسنا. نرتدي ما يُرضيهم، لا ما نحب.. نختار تخصصاتنا، ونقيم حفلات زواجنا، ونعيش تفاصيل حياتنا وفق ما يظن الناس أنه الأفضل ولو خنقنا ذلك من الداخل، حتى أطفالنا نربيهم ليكونوا انعكاسًا حسنًا أمام الناس، لا ليكونوا أنفسهم . نسألهم أن يهدؤوا لأن الضيوف موجودون ونُعلمهم منذ الصغر أن رأي الآخرين أهم من صوت قلوبهم.

 

نحن أبناء ثقافةٍ جماعية لا تُربّى على الفردانية الصحية، بل على الخوف من العيب، من الكلام، من الفضيحة. فنتحول إلى كائنات تقيس قيمتها بما تظنه الجماعة عنها، لا بما تعرفه في داخلها. الكرم يتحول إلى استعراض والضيافة إلى أداء مسرحي. والكلمة تصبح مدروسة بعناية لا للحقيقة ، بل للقبول. والمشاعر تقيد لأن إظهارها قد يُسيء للواجهة . كم من الأرواح عاشت في صراع صامت بين ما تريده وما تتوقعه الناس منها؟ وكم من فتاة ارتدت ثوبًا لا يُشبهها وأمضت عمرها تخشى الخروج عن الإطار الجميل؟ كم من شاب اختار طريقًا أكاديميًا أو مهنيًا فقط لأن هناك من قال له : هكذا الناس تحترمك ؟ كم منّا يعيش بين جدران لا تشبهه، لكنها تعجب الزوار؟

 

هذه ليست مجرد اختيارات سطحية، بل هي تمزقات وجودية تأكلنا بصمت وتُعلم أبناءنا أن يضعوا القناع قبل أن يتعلموا أن يحبوا وجوههم الحقيقية. نحو اتزان نُعيد به إنسانيتنا، انا لا ادعو لرفض المجتمع، ولا لتمجيد الأنانية، بل إلى اتزان عميق؛ أن نُربّي أبناءنا على أن يُكرموا الضيف دون أن يُهملوا أنفسهم. وأن يتعلموا أن رأي الناس مهم، لكن رأيهم في أنفسهم أهم. وأن يكون رضاهم عن ذواتهم نابعًا من الداخل، لا من تصفيق الآخرين . كم من الأرواح الجميلة ضاعت خلف واجهة أنيقة! كم من الأحلام تكسرت لأن الآخر كان يراقب! وكم من البيوت بُنيت على معايير لا تشبه أهلها، فقط لأن الناس قد يزورونها يومًا! وكم من الأطفال سيعيدون هذه الحلقة الجهنمية إذا لم نكسرها الآن؟ نحن بحاجة إلى ثورة داخلية هادئة تُحررنا من عبودية النظرات وتعيد إلينا معنى الحياة كما يجب أن تُعاش ..صادقة، بسيطة، حرّة. فلنُعد ترتيب بيوتنا من الداخل، لا من الخارج فقط ونعلم أبناءنا الا يصمتوا أمام الناس، بل يصرخوا بما يحبونه دون خوف. فلنربّي أجيالًا تعرف أن قيمتها ليست بما يراه الآخرون، بل بما تعرفه هي عن نفسها . ولعل أول الطريق أن نبدأ نحن . بأنفسنا.

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطراف