حرب السنة والشيعة : أكبر خديعة

أربعاء, 11/26/2025 - 21:53

 

محمود الجاف

في لحظات الضعف، يبحث الإنسان عمن يحميه، حتى لو أدى ذلك به إلى الهاوية. وعندما تتحول الهويات إلى قفص ضيق، يصبح الناس وقودًا لصراعات لم يختاروها. التاريخ يعلمنا أن أكثر الحروب دموية لم تنشأ عن خلافات حقيقية، بل عن صراعات صُنعت بتحويل الاختلاف إلى قدر مقدس.

 

في العالم العربي، تتكرر هذه القصة بقسوة أكبر، إذ يسير الناس نحو مصائر رُسمت لهم، وهم يعتقدون أنهم يدافعون عنها. فالواقع الإقليمي يصنع صراعًا طائفيًا تُحرّكه مصالح دول تبحث عن النفوذ: طرف سني مدعوم إقليميًا، وطرف شيعي يرتكز على دعم إيراني، وبينهما يسقط الأبرياء ممن لا يملكون بديلًا سوى الانخراط في الحرب. 

 

لقد شهدنا هذا النمط مرارًا في التاريخ الحديث؛ فالحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 لم تبدأ كصراع ديني، بل تحوّل الخلاف السياسي إلى شرخ طائفي غذاه السلاح والتدخلات الخارجية، حتى أصبح الجار عدوًّا ليس لأنه مختلف، بل لأن الخطاب أراد له أن يكون كذلك. وبعد 2003 في العراق، رأينا كيف حوّل انهيار الدولة وتدخل القوى الإقليمية النزاعات السياسية إلى خطوط تماس طائفية أحرقت المدن، رغم أن العراقيين عاشوا عقودًا طويلة دون أن تكون الهوية المذهبية سببًا للعداء أو القتل. هذه الأمثلة ليست استثناءً، بل هي دليل حيّ على كيفية صناعة الكراهية عند أول فراغ سياسي. كل طرف يستند إلى نصوص وتأويلات، ويقاتل وكأنه يحمي آخر جدار لوجوده، بينما الحقيقة أن الصراع هو حرب وكالة تُستنزف فيها حياة البسطاء.

 

سوء توظيف الدين في صناعة الفتنة

أخطر ما شهدته المنطقة هو استغلال الدين، الذي نزل للرحمة، ليصبح وقودًا للفتنة. الخلاف المذهبي لم يكن سببًا كافيًا لسفك الدماء، بل الروايات المؤولة والمجتزأة التي غُرست في وعي الناس حتى صارت حقائق لا تُناقش. في الخطاب المتشدد، كل طرف وظف نصوصًا وأحاديث نبوية لتبرير القتال، فصارت النبوءة سلاحًا والدين مبررًا نفسيًا للحرب. وللأسف، ارتبطت الغالبية بآراء علماء الطائفة بشكل أعمى، فتشكل الاعتقاد بأن الحق يُعرف بالانتماء لا بالوعي. بينما القرآن يوضح أن الهداية تقوم على القلب الصادق والعقل الواعي:

 

﴿وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾

 

العلم والمنصب والعبادة لا يضمنون الهداية: العلم يعرّف الحق لكنه لا يمنح القوة لاتباعه، والمنصب يعطي النفوذ لا البصيرة، والعبادة تنير الطريق لكنها لا تلغي حرية الاختيار. ما يقود الإنسان فعلًا هو مزيج من النفس بميولها، والقلب بصدقه أو تكبّره، والروح بما تستقبله من توفيق. فالهداية نوعان : معرفة وتوفيق، ولا ينجو الإنسان إلا حين يمنحه الله التوفيق باتباع الحق:

 

﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ﴾

 

السيناريوهات المحتملة للصراع

صراع طائفي متدرج : يبدأ باحتكاكات محلية في المناطق المختلطة، ثم تتدخل الميليشيات بدعم خارجي، ويتحوّل إلى حرب مفتوحة تُدمّر المدن وتشرد السكان. إنهيار توازن القوى داخل العراق: ظهور حكومة طائفية صلبة قد يخلق بيئة حاضنة للعنف، تستغلها القوى الخارجية تحت شعار "ضبط التوازن".

 

حرب استنزاف طويلة: السيناريو الأكثر ترجيحًا؛ يستنزف كل طرف الآخر لسنوات، بينما تستفيد القوى الإقليمية والدولية.

 

التاريخ يعلم أن لا طائفة تنتصر على الأخرى، بل تتداعى الأوطان كلها. والدول لا تُبنى بالكراهية، ولا يربح الحرب إلا من لم يدخلها. وأخطر ما يتعرض له الناس هو أن تُقنعهم القوى المتنفذة بأن عدوهم هو أخوهم، وعندما يصدقون هذا، يصبحون الخاسر الوحيد.

 

تسليح العشائر، نشر الميليشيات، وتعميق الطائفية في لبنان واليمن والعراق وسوريا كلها 

أدوات لإعادة إنتاج الفتنة. الصراع بين السنة والشيعة ليس قدرًا محتومًا، بل صناعة بشرية تستغل الدين والسياسة والهوى لخدمة مصالح لا علاقة لها بالبسطاء.

 

فلا عدوّ في الحقيقة إلا الجهل، ولا ضحية إلا الشعوب.

 

في نهاية المطاف، يبقى القول الثابت:

حرب السنة والشيعة … أكبر خديعة.

 

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطراف