
محمد جواد الميالي
التجارب السياسية الكبرى، لا تبدأ الحكاية فيها من صناديق الاقتراع ونتائجها، ولم تنتهي عند المنابر وشعاراتها، بل تتكوّن في اماكن يرتادها الوعي فقط، في تلك الدهاليز الخفية التي تُصنع فيها القناعات قبل أن تتحول إلى مواقف.
هذا ما يسمى التنشئة السياسية، بوصفها العمود الفقري لأي مشروع تغييري حقيقي، لأنها لا تُنتج ردّ فعل سريع، بل تبني إنساناً قادراً على حمل الفكرة، والصبر عليها، وتحويلها إلى فعل عام.
المجتمعات التي عانت طويلاً تحت سوط الاستبداد، ينقسم المجتمع فيها من دون أن نشعر إلى دائرتين، الاولى واسعة منشغلة بالبحث عن رغيف العيش، مثقلة بمخاوفها اليومية، تكتفي غالباً بالمراقبة من بعيد، تصفق مع المصفقين وتردد الشعارات دون معرفة، ودائرة أضيق، تُدرك أن السياسة ليست ترفاً، بل مصيراً، هذه الدائرة الثانية لا تولد مصادفة أو تتشكل بعفوية، بل تحتاج إلى بيئة تربية، وإلى خطاب، وإلى تجارب وعي تجعل منهم نخبة الامة.
التنشئة هنا، ليست تعبئة أيديولوجية، ولا شحن عاطفي مؤقت، بل بناءٌ ذو صبر طويل، على النمط الفارسي والبريطاني.. يغرز فيهم الإحساس بالمسؤولية، ويعلّم الشاب كيف يفكر قبل أن يهتف، وكيف يختار قبل أن ينحاز، وكيف يقف عندما تُستشهد الرموز.. لأنها صناعة القائد قبل أن تكون صناعة مقاوم، تبني رجل الدولة قبل أن يكون رجل الشعارات.
كل هذا يمكن له ان يفسر لنا، لماذا لم يكن مشروع السيد محمد باقر الحكيم، مجرد مشروع معارض لنظام استبدادي، بل رؤية شاملة لبناء مجتمع سياسي شيعي، في فكره، لم تكن مقاومة السلاح كافية للحكم على نجاح تجربة الخط القيادي، المعيار الأهم كان دائماً، ماذا بعد الصراع؟ كيف تُدار الدولة؟ ومن هم الرجال الذين سيتحملون أعباء القرار؟ لذلك ظل يؤكد أن المعركة الحقيقية لا تُخاض فقط لإزاحة الطغاة، بل لإنتاج نخبة قادرة على إدارة ما بعد الخصوم، نخبة تجمع بين الوعي العقائدي، والشرعية الاجتماعية، والكفاءة السياسية.
هذه الرؤية انعكست بوضوح في واقع ما بعد 2003، حين ظهر أن جزءاً واسعاً ممن تصدّروا المشهد الشيعي، بدرجات متفاوتة، كانوا نتاج مباشرة أو غير مباشرة من تلك المدرسة، لكن المفارقة المؤلمة أن اللحظة التي كان يُفترض أن تشهد ذروة نضج الخط القيادي، ترافقت مع بداية التراجع المؤسسي في قدرة الأحزاب على إنتاج قيادات جديدة، فتحولت بعض الكيانات إلى ظلال رمزية لآبائها المؤسسين، أكثر مما هي مشاريع متجددة.
رغم هذا التصدّع الذي رافق البيت الشيعي، إلا أن السيد عمار الحكيم حاول أن يعيد الاعتبار لفكرة التنشئة بوصفها مشروعاً بنيوياً، لا مجرد وفاء عاطفي لإرث شهيد المحراب، لذلك سعى إلى نقل الفكرة من حدود الرمز إلى أفق المؤسسة، ومن تجربة فرد إلى منهج عمل، يُوازن بين العمق العقائدي ومتطلبات الدولة الحديثة، في محاولة لإعادة بناء قيادات قادر على التكيّف مع تحولات المجتمع والدولة معاً.
غير أن السؤال الذي بقى يأرق الفكر الشيعي، هل ما زالت التنشئة السياسية تُعد أولوية استراتيجية؟ أم أن العمل العام اختُزل شيئاً فشيئاً في الرهان على الرموز المستهلكة، والوجوه التي أنهكها العمر والتجربة؟
المعضلة الحقيقية لم تكمن في قلة الشعارات، ولا في ضعف الخطاب، بل في هشاشة التيارات التي تُنتج القادة، فالحركات التي تنسى صناعة خلفائها، تحكم على نفسها بالفناء، والتاريخ، حين يُهمل، لا يكتفي بالتذكير، بل يعود ليعامل بقسوة.
لهذا لم تعد التنشئة السياسية في الفكر الشيعي المعاصر، مسألة داخلية تخص حزباً أو تياراً، بل اصبحت قضية تتصل بمستقبل التمثيل السياسي كله، بقدرة هذه القوى على الانتقال من ثقافة المعارضة إلى ثقافة القرار، ومن منطق الرمز إلى منطق الدولة، الرهان اليوم ليس على من يرفع الشعار، وإنما على من يملك القدرة على بناء الإنسان الذي سيحمله غداً، فإما الاستمرار في إنتاج النخب، وتنظيم العمل المؤسسي، أو البقاء في دائرة الدوران حول الرموز حتى لحظة الأفول.















