باسم الثورة والإصلاح تبدأ المواجهة أحيانا في الوطن العربي بين الأنظمة المتغلبة والتيارات التغييرية، التي تدعي أنها قادرة على الحل وإخراج المجتمعات المعنية من ورطتها المزمنة، وبحجة فرض الأمن والاستقرار، تتمسك الأولى "أي العروش المستحكمة" بخيار المواجهة، وربما العنيفة الدامية بمستويات متفاوتة، من محيط إلى آخر، ووقتها يبدأ الاشتباك الصعب التسيير والمحاصرة والتدجين، لصالح نتيجة محددة صفرية الشذوذ.
موريتانيا فعلا مختلفة، لكنها بحساب الحذر والحزم، لا تملك الكثير من الوقت لتلافي سيناريو مزعج يكرس الانزلاق المعتم المخيف، لا قدر الله.
فالجميع باختصار يحتاج إلى التعقل والرجوع لطاولة حوار أكثر جدية وشفافية، يرد على التساؤلات الكبيرة العالقة، ويفتح المجال لتعايش وتقارب، ولو كان هشا ناقصا، وإن استعصى الدخول السريع في هذا الحوار المنشود، فلابد للمعنيين بالدرجة الأولى بالشأن العام الوطني، أن يتجرعوا مرارة التعقل والصبر والتنازل المؤلم، من أجل أن لا يشتعل الفتيل.
فلو أشتعل أكثر مما حصل سابقا، في حملة تمرير التعديلات الدستورية، لكانت خيار الجلوس لطاولة التحاور والبحث الهادئ في خبر كان، لا قدر الله.
الغضب والشعور بالغبن في صفوف المعارضة الراديكالية، أو التحكم واعتقاد امتلاك كافة المفاتيح السحرية الحاسمة، كل هذا هو محض، الجو المؤشر لتناقص احتمال الحلول السلمية الحضارية، لصالح التماس، ولو كان بسيطا في نظر البعض، إلا أنه قد يكون بداية مسار عنفي، يصعب وضع حد له بسهولة,
ورغم عدم قدرة أغلب الأحزاب الكيبرة، على تمثل فضيلة التناوب على رأس هرم السلطة الحزبية، إلا أن هذه الأحزاب، تتمتع بحس وطني، ولا تحبذ العنف، ولو فرض عليها.
كما أن جيشنا وجهازنا الأمني، مهما أقدم عليه من أخطاء سابقة هابطة، فترة الحملة المنتهية للتو، إلا أنه ابن شعب طينته المسالمة، يكره العنف والدماء، وعلى الأقل في حقبة ما بعد نشأة الدولة الوطنية الحالية.
إننا في المنطقة الوسطى المتفرجة ببلاهة، ننتظر إجراءات حكومية مهدئة ومكرسة للحق في الاحتجاج والرفض السلمي في حدود القانون، لتنفيس الاعتراض على نتائج اللعبة المثيرة، التي فرضت ومررت التعديل الدستوري محل الجدل.
ومن وجه آخر امتناع قادة معارضتنا المسؤولة وأتباعها عن دفع الشارع للتماس غير المأمون، المفضي لا قدر الله، للتصادم والمواجهة المخيفة، المجهولة النتائج، الصعبة التوقيف والتحكم، دون خسائر لا يمكن لدولتنا الضعيفة احتمالها، وإن كان لكل قاعدة شذوذ.
ثم إن العنف لو حصل لا قدر الله، فإنه ربما يجر ذيله على الجميع، حكاما ومحكومين دون استثناء، لأن بعض المجموعات مستعدة، لتوظيف وركوب موجة المواجهة والصدام، للوصول إلى مآرب وأغراض متنوعة، قد تجد الجو المحتمل فرصة سانحة لاقتناص الظرف.
وفي المحصلة لا يربح أحد، وقد لا يقدر الجيش في ذروة موج الاحتجاج والمنازلة غير النظيفة وغير الشرعية، على تهدئة الوضع المتفجر، إلا بعد سقوط ما بقي من سلطة، وإن كانت غير توافقية، ولو حتى غير شرعية على رأي البعض.
وأكثر إيلاما من ذلك ذهاب المشروع الوطني، ليؤول إلى كانتونات وكيانات مشوهة مقرفة مفعمة بالترقب والخوف وقطاع الطرق، لا قدر الله.
ويومها نفيق بعد سكرة وتجاهل على ضياع كل شيء تقريبا.
إنه فعلا احتمال وارد وإن لم يكن قوي الوقوع والتحقق، لكنه يستحق الحسبان والتعقل من طرف الجميع، والتنازل من أجل التعايش السلمي، الذي يحقق الاستقرار والتوازن للسفينة الوطنية، حتى لا تغرق بالجميع.
إنني أدعو رئيس الجمهورية، لشجاعة أكبر والدعوة لحوار آخر، وإن لم يشمل إلغاء التعديل الدستوري المثير، على الأقل في الوقت الراهن، إلا أنه يؤسس لمسار تشاركي يكون فرصة للتعايش، رغم الاختلاف، ويبعد شبح هذا السيناريو المزعج بحق.
إننا أضعف وأعقل من القبول بتكرار تجارب إخوتنا المبتلين، بدول عربية وإفريقية أخرى، وسائر مكوناتنا الوطنية، أحرص على الوحدة الوطنية والمصالح العليا للوطن والتعايش الراقي وإن نسبيا، من مجرد التدافع على أبواب فتنة طامة مدلهمة، تضر بالبشر والشجر والمدر والحجر حتى، لا قدر الله.
اللهم إن كنت تعلم أنني ما سطرت هذا إلا استلهاما ببعض معنى قولك جل شأنك"ن والقلم وما يسطرون"، ولتفادي السيناريو المنزلق، فقرب وسدد وصالح بين سائر مكونات المسرح الوطني المتنافر في الوقت الراهن.
اللهم ألهم أهل موريتانيا الحكمة والتسامح والتعايش بدوام عافية دينهم ودنياهم.
اللهم سلم سلم...
الحمد لله رب العالمين على كل أمر وحال، وعلى انحسار الفتنة التي كادت أن تطل برأسها على ديارنا الغالية وبروز الأمل في التفاهم، وإن لم يكن يراه من قريب الكثير من المعنيين، باللعبة الصعبة، ظاهرا في الأفق طالعًا مأمولاً بإذن الله.
اللهم أبعد عن النفوس شحناء الاختلاف السلبي، وأوردهم موردا جامعا، يخفف من غلواء التدابر والتناقض والتجاذب المربك.
ولله الأمر من قبل ومن بعد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.