لم تقدم أي بلدٍ أكثر من المملكة العربية السعودية من أجل نشر الإسلام الراديكالي. وخلال أربعة عقود، مولت الدولة الغنية بالنفط، من خلال المؤسسات العامة والخاصة، عددًا كبيرًا من المنظمات المكرسة لنشر التفسيرات الأكثر راديكالية من الإسلام.
وباختصار، يعد تسليح الإسلام جزءًا أساسيًا من السياسة الخارجية السعودية. وهذه هي الوسيلة الرئيسية التي تقوم من خلالها الدولة بتوليد القوة وتأمين النفوذ في البلدان في جميع أنحاء الشرق الأوسط والعالم الإسلامي الأوسع. وحتى الآن، وبتواطؤٍ أمريكى، حققت هذه الاستراتيجية نجاحًا كبيرًا.
وتشارك السعودية، وبعض دول الخليج الأخرى، في نوعٍ من التضليل الثقافي. وقد اجتاح رجال الدين السعوديون والمواد الدينية المنتجة في السعودية قرونًا من التقاليد الدينية المتنوعة والمتباينة داخل الإسلام، في بلدانٍ مثل اليمن والصومال ومصر وسوريا والعراق. ويعمل هؤلاء الأئمة والخطباء السعوديين المؤثرين على الترويج للتفسيرات الإسلامية المتطرفة، التي تسود في السعودية، والمسماة بالوهابية.
وفي عام 1744، دخل «محمد بن سعود» في صفقة مع «محمد عبد الوهاب»، تقضي بدعم ابن عبد الوهاب لآل سعود في معركة النفوذ والسلطة مقابل الولاء من آل سعود لرؤية «ابن عبد الوهاب» وتفسيره للإسلام. وأصبح هذا التفسير يعرف باسم الوهابية.
ومع الوقت، زاد نفوذ رجال الدين في المملكة، ومنعوا كثيرًا أي حداثة أو تطوير. وكان شائعًا عن «عبد العزيز بن باز»، المفتي الأكبر السابق بالمملكة، دفاعه عن معتقداتٍ قديمة، كإنكاره لدوران الأرض حول الشمس.
وقد أصدر المفتي الأكبر «عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ» فتاوى دعت إلى تدمير جميع الكنائس في شبه الجزيرة العربية، وأيدت حق الرجال في الزواج من الفتيات البالغات من العمر عشر سنوات، وحرم لعب الشطرنج، وأعلن أنّ جميع سكان إيران مرتدون.
ولا تساهم مثل هذه المعتقدات في مساعدة بلدٍ ما، حتى ولو كان غنيًا بشكلٍ غير عادي، فضلًا عن أنها تعطل تحديث وتمكين مواطنيه، ولاسيما النساء. وعلى الرغم من ثروتها، تكافح السعودية لتوفير رفاهية السكان، أمام زيادة مستويات الفقر والبطالة، والانقسامات الطائفية الدموية. ولا تزال البلاد، مثلها مثل جيرانها من دول الخليج، تعتمد على العمال الأجانب. وينطبق ذلك بصفة خاصة على الوظائف التي تتطلب مستويات عالية من الخبرة التقنية. ويعد التصنيع في السعودية محدودًا، ولا يزال الاقتصاد يعتمد اعتمادًا شبه كلي على صادرات النفط.
تشكيل العالم الإسلامي
وتسهم هذه القضايا الداخلية في خوف المملكة مما تعتبره نفوذًا إيرانيًا متزايدًا في المنطقة. وعلى النقيض من السعودية، تمتلك إيران جيشًا هائلًا، واقتصادًا متنوعًا نسبيًا، مع قطاعٍ صناعيٍ نابضٍ بالحياة، وطبقة وسطى متعلمة جيدًا. ولعل الأهم من ذلك، أنّ العراق، بفضل الغزو الأمريكي، أصبح الآن داخل نطاق النفوذ الإيراني.
وتدفع المشاكل الداخلية الحقيقية وغير المعالجة إلى حدٍ كبير في المملكة، إلى جانب الخوف من النفوذ الإيراني، نحو سياسة خارجية أكثر عدوانية. وردًا على ذلك، تُضاعف المملكة جهودها لتشكيل الهيمنة الثقافية.
وتتضح هذه الاستراتيجية في جميع أنحاء العالم الإسلامي، لكنّها ملحوظة بشكلٍ خاص في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي. وتثير التغييرات التي تُحدثها المؤسسات الدينية والجمعيات الخيرية السعودية القلق على أقل تقدير. وفي أماكن مثل الصومال واليمن، اختفت تقاليد تعود إلى قرونٍ من الزمن تشمل زيارة أضرحة (أولياء الله) الصوفيين. وفي كثيرٍ من الحالات، دمر الإسلاميون المتشددون الأضرحة نفسها.
وتبدلت الأشكال المختلفة من الملابس في أجزاءٍ كثيرة من الصومال واليمن، التي لم يكن النساء فيها تغطين وجوههن، إلى العبايات المستوحاة من السعودية مع غطاء الوجه.
وقد تبدو هذه التغييرات سطحية، لكنّها لم تكن لتحدث لولا الجهود الدؤوبة التي تبذلها «الجمعيات الخيرية» السعودية والخليجية والمنظمات الدينية. وتشمل أسالیبھا توفير المواد الدینیة المجانية، والمنح الدراسية للطلاب والأئمة المتدربين للدراسة في المدارس في المملكة العربية السعودية، وحتى تقديم القروض الصغيرة للرجال الذين يُعتبرون من أتباع التفسير السعودي للإسلام.
وتعمل هذه الأساليب الناعمة على نشر الأيديولوجيات الراديكالية التي خدمت الدولة السعودية بشكلٍ جيد. ويثير هذه السياسات رجال الدين، وفي الوقت نفسه، تخلق نوعًا من علاقة الاستفادة المتبادلة بين المملكة والمسلمين في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، وردًا على نفوذ إيران المتزايد، يحاول آل سعود استبدال أساليب القوة الناعمة هذه بالقوة الصلبة.
القوة الصلبة
وفي العراق وسوريا واليمن، تقوم المملكة بتمويلٍ علنيٍ وسرية لمجموعة من الجماعات المسلحة التي، إذا لم تكن متحالفة علنًا مع جماعاتٍ مثل القاعدة، تكون مكرسة إلى حدٍ كبير لتحقيق نفس الأهداف. وعلى الرغم من أنّ 15 من بين الخاطفين الـ 19 في هجمات سبتمبر/أيلول يحملون جوازات سفرٍ سعودية، وربما كانوا مدعومين من قبل المسؤولين السعوديين، إلا أنّ الحكومة الأمريكية قد تجاهلت إلى حدٍ كبيرٍ الدور الذي تلعبه المملكة في تعزيز الفكر الراديكالي.
وتعد هذه هي نفس الأيديولوجية، مع بعض الاختلافات الدقيقة، هي التي بُنيت على أركانها الجماعات الإرهابية مثل تنظيم الدولة الإسلامية. ولم تتجاهل الولايات المتحدة الدور الذي تلعبه المملكة في تعزيز الأيديولوجية الراديكالية في العالم الإسلامي فحسب، بل إنّها تساعد الآن فيما يمكن وصفه بأنّه مغامرةٌ طائشة في بلدانٍ مثل اليمن وسوريا.
وفي اليمن، تشارك السعودية في حربٍ أضرت ببلدٍ بأكمله وأنتجت أكثر الأزمات الإنسانية إلحاحًا في العالم الآن. وكان المستفيد الرئيسي من حرب السعودية في اليمن هو تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية. وبينما قصفت الطائرات السعودية كل شيء، من المستشفيات والمزارع إلى مخيمات اللاجئين في اليمن، فإنّها نادرًا ما استهدفت معاقل تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية. واحتلت القاعدة في شبه الجزيرة العربية مدينة المكلا الساحلية اليمنية لمدة عامٍ وحكمتها، دون أن تقلق من استهداف القوات السعودية لها. ويقاتل تنظيم القاعدة والسعودية نفس العدو، وهم الحوثيون، حركة المتمردين الشيعية الزيدية.
وقد أظهرت الحرب في اليمن حدود السياسة الخارجية السعودية، وأظهرت كذلك ضعف قواتها المسلحة التي فشلت وتفشل بشكلٍ روتيني في الدفاع عن حدود البلاد ضد غارات قوات الحوثيين. ويجب أن تكون الحرب في اليمن تحذيرًا عالي الصوت لصانعي السياسة الأمريكية حول مخاطر السماح للمملكة بمواصلة تحولها من القوة الناعمة إلى القوة الصلبة. وقد أدى هذا التحول بالفعل إلى تمكين القاعدة في شبه الجزيرة العربية وغيرها من المنظمات الإرهابية. وهذا وحده ينبغي أن يكون سببًا كبيرًا للقلق.
ومما يثير القلق بشكلٍ أكبر هو الخطر الذي يشكله هذا التحول الآن على البلدان المستقرة في الشرق الأوسط. وتقوم السعودية وحليفتها الإمارات العربية المتحدة الآن بفرض حصارٍ على قطر. ومن المفارقات أنّ سبب الحصار هو دعم قطر المزعوم للجماعات الإرهابية. وبدون تدخل الولايات المتحدة، فإنّ تحرك المملكة من القوة الناعمة إلى القوة الصلبة يهدد بتحول أكثر المناطق المضطربة بالفعل في العالم إلى مرجلٍ من الفوضى. وقد تكون هذه السياسات الجديدة من قبل المملكة أخطر بكثير من تمويلها ودعمها للإسلاميين المتطرفين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.