يتهدد الترحيل القسري مئات الآلاف من المغتربين اليمنيين في السعودية، في أعقاب حزمة القرارات الأخيرة التي اتخذتها المملكة ضد الوافدين، والتي فرضت بموجبها رسوماً باهظة عليهم. قرارات تشكل حلقة جديدة من سلسلة انتهاكات متقادمة، تعرّض لها أبناء البلد الفقير على أراضي جارتهم الشمالية. وفي وقت تضيق فيه السبل أمام هؤلاء أكثر فأكثر، تلتزم حكومة «الشرعية» الصمت، بل ولا تجد حرجاً في الدفاع عن السياسات السعودية
تغريبة يمنية خلفتها الحرب التي تقودها السعودية على جارتها الشقيقة منذ آذار/ مارس 2015م. 3 ملايين نازح داخل اليمن – وفقاً للمنظمة الدولية للهجرة – عصفت بمعيشتهم «عاصفة الحزم» ودمرت حاضرهم وبددت أحلامهم. وبدلاً من استقبالهم كلاجئين هاربين من جحيم حرب هي التي أشعلتها في اليمن، أوصدت عليهم المنافذ كافة بحصار بري وبحري وجوي، قبل أن تعمد إلى تكثيف إجراءاتها التعسفية لإجبار أكثر من مليون و200 ألف عامل يمني على ترك أعمالهم والرحيل مكرهين من داخل المملكة.
في آذار/ مارس 2017م، صدر قرار توطين وظائف بيع «الجوالات» في السعودية، وهو قطاعٌ يشكّل اليمنيون النسبة الكبرى من المشتغلين والمالكين فيه. وسبّب هذا القانون فقدان آلاف من العمال اليمنيين وظائفهم، واضطرار آخرين إلى بيع محالهم، ليأتي بعد ذلك قرار «سعودة» المولات والمراكز التجارية، الذي جعل آلافاً من اليمنيين بلا وظائف، هاربين من الملاحقات ومكدّسين في «عزب» تفتقر إلى الحياة الصحية.
لم تنته حزمة القوانين السعودية ضد العمالة اليمنية عند هذا الحد. ففي الثالث من تموز/ يوليو 2017م، أصدرت وزارة المالية السعودية قوانين جديدة تستهدف العمالة الوافدة. إذ تنص على وجوب أن يدفع الوافد مئة ريال شهرياً كرسوم عن كل فرد تابع أو مرافق له. وتتضاعف تلك الرسوم في عام 2018، لتصل في نهاية 2020 إلى 400 ريال شهرياً. وتضاف إليها رسوم عن العامل نفسه، تبدأ بـ400 ريال شهرياً في العام الحالي، وتنتهي بـ800 ريال في عام 2020، إضافة إلى رسوم الكفيل ومكتب العمل والتأمين.
وفي نهاية كانون الثاني/ يناير الماضي، صدرت قرارات سعودية جديدة بسعودة 12 مهنة، منها منافذ البيع في محال الملابس الجاهزة وملابس الأطفال والمستلزمات الرجالية، ومنافذ البيع في متاجر السيارات والدراجات النارية، ومحال الأثاث المنزلي والمكتبي. وهو ما يعرّض مئات آلاف الأجانب، أغلبهم يمنيون، للخسارة والخروج النهائي من المملكة.
رسوم العمالة الوافدة تسترجع 50% من دخل المغترب في المملكة، وفقاً للكاتب والباحث اليمني، مصطفى راجح، الذي يذكّر، في حديث إلى «الأخبار»، بأن «السعودية نفذت في عام 1990 عقاباً جماعياً بطرد مليون مغترب يمني بسبب تأييد النظام في صنعاء للغزو العراقي للكويت. واليوم، تطرد السعودية ضمنياً أكثر من مليون ومئتي ألف مغترب يمني بإجراءات تعسفية، مضافة إليها سعودة الوظائف. لكن الرياض مطمئنة إلى صمت الرئيس هادي ووزراء حكومته المستضافين في فنادقها».
اضطهاد العاملين
بُني الاقتصاد السعودي على أكتاف مئات الآلاف من العاملين اليمنييين. فإلى عام 1975م، كانت الرياض 5 شوارع فقط (البطحاء وأم الحمام والملز والنسيم وطريق الخرج)، وكان الرأسمالي اليمني، خالد بن محفوظ، صاحب أول بنك تجاري في المملكة (البنك الأهلي)، يقرض الحكومة السعودية. ومثله كان ابن لادن، ومحمود سعيد، وعبد الله بقشان، ومحمد العمودي، الذين منحتهم المملكة جنسيتها للبقاء فيها، وضيّقت الحصار على من أراد منهم مجرد استثمار جزء يسير من أمواله لخدمة بلده الأصلي (اليمن)، بل صادرت بعضها بطرق ملتوية، كما حدث مع عائلة ابن محفوظ الذي استوليَ على غالبية أسهم بنكه قبل سنوات، وكذلك الأمر مع مجموعة ابن لادن.
ومع الطفرة النفطية (1975 ــ 1982)، مكّن الملك الراحل، خالد بن عبد العزيز، السعوديين من الحصول على قروض من بنك التسليف، لتبدأ إثر ذلك النهضة العمرانية بسواعد اليمنيين وعرقهم كعمّال بناء ونجّارين وحدّادين وسائقين. حينها، ووفق ما يؤكد لـ«الأخبار» عدد من المغتربين اليمنيين، لم يكن السعوديون القادمون من صحارى نجد بالإبل والأغنام يجيدون عدّ النقود التي يتسلمونها من البنك. واليوم، بفضل بحيرة النفط التي وهبتها الطبيعة لمملكة الرمال، يتكدّس المغتربون اليمنيون في «العزب» التي لا تليق حتى بالمواشي، ينتظرون مرتّباتهم التي يماطل في تسليمهم إياها أرباب العمل لشهور. كما يتكدس الآلاف منهم في سجون «الشميسي»، التي خصصها النظام السعودي للعمالة الوافدة.
لقد أضحى المغتربون اليمنيون في السعودية في حالة أشبه بـ«الجحيم»، ومع ذلك لا يمكنهم البوح بمعاناتهم؛ فوسائل التواصل مع أسرهم في اليمن مراقبة، كما يقول م. ع. الوصابي، الذي يقضي إجازته مع أهله في محافظة ذمار. الوصابي يعمل سائق شاحنة في شركة مقاولات، يتقاضى منها 2500 ريال سعودي شهرياً، ويدفع لمكتب العمل 4800 ريال سنوياً كرسوم إقامة، كما يدفع للتأمين الصحي 350 ريالاً في العام، ويجدد إقامته السنوية في المملكة بـ650 ريالاً، ويسلّم التأمينات الاجتماعية 200 ريال شهرياً. ولدى نقل الكفالة للمرة الأولى، توجب عليه دفع 2000 ريال، ولمرة ثانية 4000 ريال، ولمرة ثالثة 6000 ريال. كذلك فإنه، وغيره من سائقي الشاحنات العاملين في الشركات السعودية، ملزمون بسداد المخالفات المرورية. وفي حال رغبتهم في الحصول على تأشيرات إجازة، عليهم سداد 100 ريال عن كل شهر.
إزاء ذلك، يعبّر الكاتب والروائي اليمني، محمود ياسين، عن «غصّته» بالقول: «لقد تلقى كثير من اليمنيين هذا الشكل من الإذلال على أيدي ضباط وتجار وكفلاء سعوديين قبل زمن التصوير، وأمضوا أيامهم متأبّطين قهرهم من دون أن يسمع نشيجهم أحد، وفي كل مرة يبتلعون انكساراتهم كما يفعل عاثرو الحظ، (هؤلاء هم) مَن قُدّر لهم أن يكونوا مواطنين من جوار المملكة». ويضيف ياسين، في حديث إلى «الأخبار»، أن «السعودية هي البلد الوحيد في العالم الذي يقايض غربتك بإنسانيتك ورزقك بالمذلات… إنها الديكتاتورية الوحيدة في العالم التي تمعن في إذلالك حتى وأنت تسبّح بحمد الملك».
«إذلال» يتجلى في صور شتى، تُعدِّد بعضاً منها دراسة يمنية حديثة. وفقاً لهذه الدراسة، فإن من أبرز المشكلات التي تواجه العمالة اليمنية في السعودية «طول فترة الدوام (تصل إلى 12 ساعة يومياً)، كثرة أعباء العمل ومهماته، غياب التأمين الصحي، الصعوبة في استقدام العائلة، ضعف الأجور والحوافز المعنوية، حرمان الأجر أثناء الإجازة السنوية، عدم الحصول على مكافأة نهاية الخدمة، عدم وجود يوم راحة أسبوعي، التعرض للتعسف من قبل بعض الكفلاء، عدم وجود عقد عمل رسمي يحدد علاقة العامل بالعمل، وغياب اللوائح التنظيمية الموضحة لحقوق العامل وواجباته». هكذا، تضرب السلطات السعودية عرض الجدار بالقانون الدولي، وتتجاهل الاتفاقيات الدولية التي صدّقت عليها، وتتناسى معاناة الوافدين في أراضيها، والأكيد أن مساءلة المنظمات الحقوقية لها لن تمنعها من تنفيذ حزمة القرارات التي اتخذتها.
تواطؤ «حكومة المنفى»
وفي وقت يتهدد فيه الترحيل القسري المغتربين اليمنيين، وتتعرض أسرهم للقتل والتهجير بفعل غارات طيران «التحالف»، يلتزم الرئيس اليمني المستقيل، عبد ربه منصور هادي، ووزراء حكومته الصمت في فنادق الرياض، ويتحلقون حول موائد «الكبسة» في وقت تَلحق فيه بمواطنيهم صنوف المذلة والامتهان. قبل أيام، وعلى استحياء، وجّه هادي بتشكيل لجنة حكومية للتواصل مع النظام السعودي، أملاً في استثناء المغتربين اليمنيين من قرار «رسوم العمالة الوافدة». وبعد ساعات من قراءة التوجيه الرئاسي في نشرة أخبار قناة «اليمن» التابعة لـ«الشرعية»، أطلّ الملحق الإعلامي للسفارة اليمنية في الرياض، عارف أبو حاتم، من على القناة نفسها، ليدافع عن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة السعودية، قائلاً: «من حق السعودية أن تتخذ الإجراءات المناسبة لها في ما يتعلق بقوانينها، والمغتربون اليمنيون يعرفون أن هناك مهناً مسعودة منذ 17 عاماً، فلماذا يعملون فيها؟»، مشيراً إلى أن «السعودية اتخذت قراراً بخفض المقيمين فيها من 12 مليوناً إلى 4 ملايين».
أمير يعتدي على مغترب
ليس أرباب العمل والكفلاء وضباط الشرطة وجنودها وحدهم في ممارسة الانتهاكات بحق المغتربين، بل إلى جانبهم أيضاً الأمراء. ففي تموز/ يوليو من عام 2017م، أقدم الأمير سعود بن عبد العزيز بن مساعد آل سعود على الاعتداء ضرباً على المغترب اليمني، جمال سنان، بسبب ركنه سيارته أمام قصر الأول في الرياض. لم يجد سنان وسيلة للكشف عن مظلمته سوى نشر مقطع فيديو يظهر فيه بثيابه التي لا تزال ملطخة بالدماء، مناشداً الملك السعودي وولي العهد إنصافه. تفاعل الملك سلمان مع مناشدة سنان، ووجّه بضبط الأمير، ليشعل النشطاء السعوديون وأنصار حكومة هادي، إثر ذلك، مواقع التواصل مديحاً بـ«عدل» الملك، وإشادات بـ«نزاهة» القضاء السعودي. لكن سيرة الأمير تكشف زيف ذلك. إذ إن المعتدي سبق أن حُكم عليه بالإعدام في جريمة أخرى، وأعلنت السلطات السعودية إعدامه، لتأتي جريمة الاعتداء على المغترب اليمني لتثبت أنه لم يُعدَم واقعاً. والجدير ذكره أيضاً، أن لهذا الأمير سجلاً حافلاً بالانتهاكات ضد العمال الأجانب في المملكة، فقد سبق له أن اعتدى على مغترب مصري، وعلى آخر عراقي ظهر في مقطع فيديو وهو يركله في وجهه، قبل أن ينقضّ عليه باللكمات حتى سالت الدماء منه.
«محرقة خميس مشيط»
من ضمن الجرائم الموثقة ضد العمال اليمنيين أو من يتطلعون للعمل في السعودية، تحضر «محرقة خميس مشيط» كشاهد على بشاعة ما يتعرض له هؤلاء في المملكة. ففي أيار/ مايو من عام 2008م، طاردت دوريات الشرطة السعودية 25 يمنياً تسللوا عبر الحدود الجنوبية إلى خميس مشيط بحثاً عن أعمال وإن بأجور زهيدة. لم يجد اليمنيون المحاصرون بالدوريات مكاناً للاختباء فيه سوى مكب النفايات. ومع ذلك، لم تتركهم دوريات الشرطة لحالهم هناك. بل ترجّل الضباط من دورياتهم ليشعلوا النيران في مكبّ النفايات، وليصاب على الأثر 18 يمنياً بحروق شديدة.
لم ينقل رجال الشرطة المصابين إلى مستشفى محلي إلا بعد التحقيق معهم. وفي أعقاب إخضاعهم للعلاج تسعة أيام، أُخرِجوا من المستشفى ليُحجَزوا لدى الشرطة قبل أن يشفوا، وقد ظلوا في عهدة الشرطة لمدة يومين «دون علاج أو طعام أو ماء» بحسب ما أفاد بعضهم يومها. حينذاك، طالبت منظمة «هيومن رايتس ووتش» بتحقيق محايد في الجريمة، لكن السلطات قيدت لاحقاً القضية ضد مكب النفايات، فيما لاذت المنظمات الإنسانية بالصمت.