كيف ثأرت جميلة الجزائرية لجمال خاشقجي؟

أربعاء, 10/31/2018 - 01:08

لم يفزعهم ويربكهم وهو حي مثلما فعل عندما سلم الروح بعد اغتياله الوحشي في مبنى القنصلية. لقد تحول جمال خاشقجي من كاتب معروف في دوائر الحكم في السعودية، ليست بيده لا مفاتيح الحل ولا الربط ولا سلطة التأثير المباشر فيها، إلا بالقدر الذي كانت تتركه شمعاته القليلة من بعض الضوء في دياجير بلاده، إلى مرآة عاكسة لا فقط لطبيعة الانتهاكات الفظيعة التي تجري داخل مملكة الخوف، بل أيضا لكل ما يعتمل داخل النظام الاقليمي والدولي من زيف وخداع ونفاق، وشراء ذمم واحتكام نزق لشرعة الصفقات بديلا عن شرعة الإنصاف.
ورأينا جيدا كيف اجتمعت حكومات وخرجت بيانات وظهرت تصريحات وتنديدات وتهديدات من هذا البلد وذاك، وكيف تصاعد الحديث بين عشية وضحاها عن أن التوزان الاقليمي كله بات قاب قوسين من أن يتزعزع، وأن العاصفة صارت على الأبواب، وأنها ستقتلع في طريقها كثيرا من الجبابرة وتطيح بهم وبكراسيهم، وأنها قد تعيد في الاثناء حتى رسم خرائط سيسبيكوية جديدة.
لكن وبغض النظر عما اذا كانت كل تلك التوقعات ستصح أم لا، فإن جمال السعودي صار ظاهرة كونية تتعدى انتمائه المهني أو القطري الضيق. فمن لم يقرأ له ولو حرفا واحدا في السابق صار يعرف اليوم أدق التفاصيل عما كتبه في «الواشنطن بوست» وعن آخر اقواله ومواقفه ولقاءاته الإعلامية. أما بالنسبة لجيوش المطحونين والمسحوقين والمظلومين التي تملأ العالم العربي، فقد مثل مقتله بتلك الطريقة الشاذة والفظيعة الدليل العملي الأقوى على أن خط الرجعة بين الانظمة والشعوب قد رسم بشكل بات لم يعد هناك سبيل لتصويبه. ولعل الشيخ الغنوشي كان محقا حين قال قبل أيام «إن المناخ السياسي العالمي الحالي يشبه المشهد التراجيدي لاحتراق الشاب محمد البوعزيزي وما فجره من تعاطف اقليمي ودولي، ونقمة على الظروف التي قدفت به إلى ذلك المشهد». فالمناخات تبدو شديدة الشبه بالفعل.
ففيما مثّل موت البوعزيزي الإشارة الأقوى لحكام المنطقة على أن عروشهم وكراسيهم لم تعد بمنأى أو بمأمن من غضب الشعوب وثوراتها، فإنه من المفترض والمتوقع أيضا أن يكون اغتيال خاشقجي، كلمة السر في انطلاق حرب التحرير العربية الثانية. لكن هل نضج الوعي الشعبي لذلك؟ وهل تهيأت الآن بالفعل كل الظروف المطلوبة حتى تبدأ معارك التحرر العربي من الاستبداد الطويل الذي كتم الأنفاس وداس الرقاب لعقود طويلة؟ إن نظرة سريعة لردات الفعل العربية على جريمة اغتيال الصحافي المغدور، ستصيبنا بحالة من بالقنوط والإحباط، وستجعلنا نيأس تماما من إمكان تحقق ألأي صحوة جماهيرية في الوقت الراهن. ففيما لم تخرج المواقف الرسمية عما كان منتظرا ومتوقعا، كانت المفاجأة على الطرف الآخر، هي أن التعاطف الشعبي العربي بدا بسيطا ومحدودا وشديد الضعف والوهن، ولم يبرز ابدا بأي شكل من اشكال التعبير المعروفة والمكشوفة، إذ لم تخرج من أي عاصمة عربية مثلا ولو مظاهرة واحدة للتنديد أمام السفارات السعودية، أو حتى الاعتراض على الاعتراف السعودي المتأخر والناقص بها. فهل كان ذلك النتيجة المنطقية لتعمق حالة الخوف والعجز والإحباط؟ أم أنه الدليل ببساطة على ضعف أو قلة استشعار هول المأساة الانسانية التي حصلت؟ ربما كانت القيادات والرموز العربية الشعبية التي ادارات ظهرها للاغتيال الرهيب وتجاهلته، رغم بكائياتها المستمرة على الشاشات، ولم تدفع بالقوة المطلوبة نحو الاحتجاج الصارخ عليه، هي المسؤولة في جانب كبير عن ذلك. ولكن ما الذي كان بوسع تلك القيادات والرموز الشعبية المعروفة أن تفعله؟ لقد قالت جميلة بوحيرد مثلا، وهي أيقونة الثورة الجزائرية، في تصريح لصحيفة «الشروق» المحلية إنه «بعد الذي حصل لجمال خاشقجي، وبعد أن أصبح واضحا لكل العالم، أن المعارض السعودي اغتيل وبتخطيط من مستويات عليا في المملكة السعودية، فقد قررت أن لا أحج طالما أن القتلة لم يعاقبوا».

غير أن المناضلة الشرسة للاستعمار الفرنسي، لم تطلق بالمقابل أي مبادرة أو دعوة صريحة لحشد الجزائريين أو حتى العرب ودعوتهم للتظاهر، أو حتى لمقاطعة أو معاقبة النظام السعودي على ما اقترفه في حق الصحافي الراحل، وحق آلاف آخرين يقبعون حتى الآن في السجون والمعتقلات والمنافي، ولم تقل أبدا ما الذي ينبغي على السعوديين وعلى باقي العرب فعله للتخلص من مستبديهم، أو ما الذي ستفعله هي إن باءت خطوتها بالمقاطعة الشخصية للحج، حتى يعاقب القتلة، بالفشل، أو كانت بلا جدوى وذهبت أدراج الريح. لن نشكك أبدا في نبل المشاعر الإنسانية للبطلة جميلة الجزائرية أو في تعبيرها العفوي عن اصطفافها وراء الحق والعدالة، ولن نحملها كل الأوزار والنقائص والعيوب والخطايا. ولكن ألم يكن جديرا بالمرأة الرمز، التي وقفت ضد الاستعمار الفرنسي المباشر، أن تقف الآن وقفة اخرى أكثر قوة وصلابة ضد الاستبداد العربي وما خلفه من خراب ودمار، وما اقترفه على مر السنين من جرائم مريعة في حق أبناء شعبه؟
إن جميلة هنا ليست سوى الشجرة التي قد تحجب الغابة، فالقلة القليلة ممن قد يطلق عليهم أيقونات أو رموز عربية خالدة، كافحت من أجل طرد الاستعمار من بلدانها لم تستمر طويلا في طريق النضال من أجل بناء مجتمعات حرة تضمن فيها الكرامة الإنسانية. لقد فضلت في أحسن الأحوال السكون والانزواء والابتعاد عن الأضواء، مثلما فعلت جميلة. غير أن ذلك لم يحل دون أن تكون عرضة للاستثمار والاستغلال السياسي من الأنظمة المستبدة، التي أرادت أن تستخدمها لتبيض بها سجلها الاسود في قمع الحريات. لقد ذهبت بطلة التحرير الجزائرية في فبراير/شباط الماضي إلى مصر، ولم تهتم إلى أن مجرد وجودها في بلد تقمع فيه الحقوق وتداس تحت جزمة العسكر وتمتلئ فيه السجون والمعتقلات عن آخرها بأصحاب الفكر الرأي، سوف يعني مباركتها الضمنية للافعال والانتهاكات الجسيمة التي يمارسها وسط صمت عالمي مطبق. ونقلت عنها وكالة الانباء الرسمية في ذلك الوقت إشادتها بعبد الفتاح السيسي الذي قالت عنه إنه «يخوض حرب وجود لمنع تقسيم العالم العربي». والمشكل الإضافي هو أن الرموز الشعبية وقيادات الرأي في معظم الدول العربية لم تتحرر بعد من لعبة المصالح ومن النظرة القطرية، وربما الانانية الضيقة، فحتى إن هي أبدت تعاطفا أو تضامنا مع ما حصل لجمال خاشقجي، فإنه يظل بنظر قسم واسع من هؤلاء صحافيا سعوديا قد لا يهم مصيره أحدا اخر في النهاية غير السعوديين انفسهم. وهو المنطق الذي لم يكن موجودا بالقدر نفسه على الاقل زمن الاستعمار المباشر، وبالحدة التي نراه عليها اليوم.
ان كل ذلك يجعلنا نقول إن الثأر الحقيقي لدم جمال يبدأ فقط ساعة التحرر الذاتي من سطوة الاستبداد والخروج من منطق التناقض والازدواجية، وحينها فقط يمكن أن نجزم بأن دمه لم يذهب هدرا، وانه لم يفزع المستبدين فقط، بل حرك ايضا شعوبهم وأيقظها من سباتها العميق.

نزار بولحية

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطرائف