تحية اعتزاز وإكبار للفلسطيني الحر الغيور وضاح عبد الحق أبو مكسيم، الذي انبرى من بين الجميع وتقدم، وسبق الكل وتميز، وأعطى من حرِ ماله عن طيبِ نفسٍ ورضا خاطرٍ، فأنفق مما يحب، وتنازل عما يهوى، وتخلى سعيداً بيتٍ يملكه، وعقارٍ تعب في بنائه، وشقي في امتلاكه، فنال البِرَ من البَرِ عز وجل، وحاز على الفضل كله بما أنفق، ولم تمنعه بزته العسكرية من المساهمة، ولم تقف صفته الرسمية دون العطاء، وقادته رتبته العالية ليكون من العالين فضلاً وإحساناً، فضرب للفلسطينيين أولاً مثلاً في التضامن والوفاء، وفي النصرة والإخاء، وفي الجود والعطاء، وفي الحب والإيثار، رغم أنه والفلسطينيين عموماً على ما هم فيه منذَ أمدٍ، من بؤسٍ وشقاء، وضيقٍ وعناءٍ، وفقرٍ وفاقةٍ، وعوزٍ وحاجةٍ.
لكنه آثر أن يتنازل عن بعض ما يملك لسيدةٍ عظيمةٍ أعطت وأبلت، وضحت وقدمت، وابتليت وصبرت، واستحقت بجدارةٍ أن تكون خنساءَ فلسطينية جديدة، فهي أمٌ لستةِ أسرى، أربعةٌ منهم محكومون في السجون الإسرائيلية مدى الحياة، هم فلذة كبدها وحصيلة عمرها ناصر ونصر ومحمد وشريف وجهاد وإسلام، لا تراهم لدقائق معدودة إلا بشق الأنفس، وبعد طول حرمانٍ وشديدِ معاناةٍ، وتلقى خلال زيارتهم وفي الطريق إليهم من سلطات الاحتلال صنوفاً من الإهاناتٍ والإساءاتٍ، ولكنها من أجلهم وفي سبيلهم تصبر وتحتسب.
كما أنها أمٌ لشهيدٍ عظيمٍ، ومقاومٍ كبيرٍ، أدمى العدو وأوجعه، ونال منه وأتعبه، إنه الشهيد عبد المنعم أبو حميد، الذي عرفه الفلسطينيون باسم "صائد الشاباك"، إذ استدرج أحد ضباط المخابرات إلى مكمنه وقتله، وغنم سلاحه واستولى على ما معه من أجهزةٍ ووثائق، فما نسي العدو لعائلته المُرَّ الذي أذاقهم إياه، ولا العلقم الذي جرعهم منه، فصب الاحتلال غضبه على أهله انتقاماً منه وحقداً عليه.
إنها الأم الفلسطينية الشامخة الحاجة أم ناصر أبو حميد، التي ما انحنت لها قامة، وما خبا لها صوت، ولا سمع منها نحيب، ولا عرف عنها عويل، بل حافظت على شموخ الشهادة وعزة المقاومة، وصبر الأسرى والجرحى، وبقيت كالطود نفتخر بها، وكالخيمة نحتمي تحتها، ننظر إليها فلا نرى دمعتها، ونتطلع إليها فلا نسمع آهتها، ونقترب منها فنسمع منها كلماتٍ كأنها الهدير، ووعوداً كأنها النذير، تعد بالنصر وتترقب الحرية، وتبشر بالغد الآتي والفجر القادم، لا توقفها عتمة الليالي ولا ظلمة ما قبل الفجر، ولا يكسر ظهرها بيتها المهدم ولا جدرانه التي تصدعت، ولا يخرجها عن ثباتها أصوات تفجير بيتها للمرة الثالثة، ولا أثاثه المتطاير في كل مرةٍ، وذكرياته الممزقة عند كل نسفٍ وتدمير.
عظيمةٌ هي الحاجة أم ناصر، عظيمةٌ بصبرها وكلماتها، وصلبةٌ بكوفيتها وجلستها على أنقاض بيتها المهدم كل مرة، وشامخةٌ بتحديها للعدو ورسائلها لرئيس حكومته، لكن أم ناصر أبو حميد ليست وحدها التي دُمِّرَ بيتها، ونُسفَت دارها، وهدم العدو منزلها، فغيرها كثيرٌ قد سوى العدو بيوتهم بالتراب، وحطم أثاثهم، وكسر أوانيهم، وبعثر حاجياتهم، ومزق دفاتر أولادهم، وسحق ألعاب أطفالهم، وحرم أهلها من ذكرياتهم وبقايا آمالهم فيها، وتركهم في العراء تحت المطر، أو في الخلاء تحت الشمس الحارقة، فلا سقف يحميهم قر الشتاء أو حر الصيف، ولا جدران يستترون فيها ويعيشون خلفها، وبقوا على هذا الحال المريع سنين طويلة، لا يجدون من ينصرهم، ولا من يقف معهم ويساعدهم، ورغم ذلك فقد كانوا جميعاً كأم ناصر ثباتاً ورسوخاً، وصبراً واحتساباً.
لن تتوقف سلطات الاحتلال الإسرائيلي عند بيت أم ناصر ولم تقف، فقد هدمت في غضون أيامٍ قليلة بيوت عددٍ من الشهداء المقاومين، وأصدر وزير حربهم الذي هو رئيس حكومتهم أوامر جديدة بالهدم ونفذ جيشه أوامره، ولا نتوقع أنهم سيكتفون بما ارتكبوا، أو أنهم سيندمون عما فعلوا، اللهم إلا إذا شعروا بأن ضريبة الهدم كبيرة، وعاقبة التدمير وخيمة، ورد فعل المقاومة أشد وأنكى، وإذا ما علموا أيضاً أن نسف البيوت وقتل النفوس وحبس الأجساد لن يمنع المقاومة، ولن يفت في عضد الرجال، ولن يدفع الفلسطينيين إلى اليأس والقنوط، والتسليم للعدو بما احتل واغتصب، والقبول بما يرتكب من جرائم وموبقاتٍ بحقهم.
إن ما قام به أبو مكسيم لا يسقط الواجب عن الأمة، ولا ينوب عنها بما قدم، ولا يعفيها من المسؤولية، ولا يخلي طرفها من الحق المتعلق بها، إنما يستصرخ بإحسانه العرب والمسلمين عموماً، ويذكرهم بالواجب الملقى على عاتقهم جميعاً، والتكليف المنوط بهم في كل مكانٍ، كما يحرض الأغنياء والقادرين من الفلسطينيين، ويستنهض هنا وهناك الهمم والضمائر، ويشحذ القوى والعزائم، ليقوم الجميع بدورهم، وينهض الكل بواجبهم، فالبيوت المهدمة كثيرة، والعدو المتربص بنا شريرٌ ظالمٌ، طاغي باغي، يحاربنا بهدم بيوتنا وتشريد أهلنا، فلا أقل من أن تقف الأمة والشعب إلى جانب ذوي الشهداء وأسرهم، إذ لا يكفي أن نشيد بالشهداء وأن نرفع صورهم ونحفظ أسماءهم، ولا يجزيهم شيئاً أن نحتفي بهم ونحيي مهرجانات التأبين باسمهم، إنما يجب علينا أن ننوب عنهم ونكرم أهلهم، ونستر أسرهم، ونحافظ على كرامتهم.
إن ما قام به وضاح عبد الحق تجاه أم ناصر لشيءٌ عظيمٌ يُحفظُ له، وبه يُذكرُ بين الناس، ويشكرُ عليه ويحمدُ، وسيبقى ذكره بين الناس عطراً واسمه حاضراً وفعله حسناً، ولكن فضله عند الله عز وجلُ أكبرُ وأعظمُ، ومكانته أجلُ وأعلى، وله في سجله يحفظ، ويوم القيامة سيجده له ذخراً، وعملاً به يتشرف، وعطاءً به يسبق ويتقدم، فطوبى لك وضاح، رفع الله قدرك ومقامك، وعوضك خيراً، وأبدلك داراً خيراً من دارك، ومنزلاً أعظم من منزلك، وجعل بيتك في أعلى عليين، في الفردوس الأعلى مع الأنبياء والصديقين والشهداء.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي