حياة الشهيد محمود المبحوح حافلةٌ بصور المقاومة وتعج بحكايات الصمود والتحدي، وتزخر بقصص الإعداد والتجهيز، والتسليح والتصنيع، والتهريب والتوريد، والإمداد والإسناد، والمطاردة والملاحقة، والتسلل والتخفي، والصفقات والمراهنات، والنجاح والفشل، والعقل والجنون، والفرح والحزن، والأمل واليأس، فقد سَخَّرَ رحمه الله حياته كلها للمقاومة، وما أبقى لغيرها في نفسه مكاناً، فعاش يفكر فيها ليله ونهاره، ينام عليها ويستيقظ بها، ولا شيء يشغله عنها، أو يسعده سواها.
وقد اعتاد في مقاومته الصعب واختار المستحيل، وتحدى الضعف وقهر العجز، وانتصر على الصعوبات والعقبات، ولبى الحاجات والمتطلبات، وما تأخر عن مقاومٍ، ولا قصر في دعم تشكيلٍ عسكري أو مجموعةٍ مقاتلةٍ، أياً كانت هويتها وانتماؤها، فقد تسامى على الحزبيات، وارتفع على ضيق نظرة وعصبية التنظيمات، ونظر إلى فلسطين كلها وطناً، وقدر مقاومة أبنائها جميعاً، وأبدى استعداده للتعاون معهم بصفاتهم الوطنية المقاومة وليس بأسماء تنظيماتهم السياسية وأحزابهم العنصرية.
ما سأكتبه في هذا المقال عن الشهيد محمود المبحوح هو بعضاً مما رواه لي شخصياً، وبعض ما شهدته معه بنفسي، إذ رافقته سنين طويلة في غزة ودمشق وبيروت وليبيا، سكنت وأقمت معه، وسافرت معه براً وبحراً وجواً، وتجولت وإياه وعملت معه، وعرفت منه بعض أسراره وشاركته في الكثير من همومه، وصاحبته في العديد من لقاءاته، وكان يستمع لي إذا نصحته، واستمع إليه إذ يُسرُ ناصحاً ويسدي صادقاً، ومن قبل كنت منه قريباً في غزة، أعرفه عن كثبٍ، وأزوره في بيته وأذهب إليه في عمله، وأعرف ما يشغله وما يفكر به، وما يتطلع إليه وما يعمل من أجله.
عشية سفره إلى دبي كان الشهيد المبحوح قد أودع تاجراً في دمشق لا يعرفه سواه ولا يشهد عليه أحدٌ غيره مبلغ ثمانية ملايين يورو، ثمناً لصفقة سلاحٍ يريد أن يوردها إلى المقاومة في الداخل، حيث كان قد اتفق عليها وحدد كميتها وسبل توصيلها إلى غزة، لكن القدر كان أسبق وأعجل، فاستشهد محمود في دبي، وشاعت الحادثة وعرفت القصة، وأعلنت حركة حماس عن قيام مجموعةٍ من الموساد الإسرائيلي باغتياله في دبي، وتوالت التحقيقات وانتشر ت التقارير وذاع اسم المبحوح وصورته واشتهر.
بعد أيامٍ قليلة من الحادثة، وقبل أن يصل جثمان الشهيد إلى دمشق، اتصل بأحد مكاتب حركة حماس التاجر الدمشقي، الذي لا يعرفه سوى المبحوح، ولا يشهد على استلامه المبلغ منه سوى الله عز وجل، وطلب لقاء مسؤولٍ في الحركة، وبعد إصرارٍ منه، وبحثٍ وتحقيقٍ عنه ومعه من الجهات الأمنية بالحركة، سُمحَ له بمقابلة أحد المسؤولين، حيث دخل عليه يحمل حقيبةً مليئة بالأموال، قدمها لمضيفه قائلاً له، هذه أمانة الشهيد، يشهد الله عليَّ وعليها، ولا يعرف عنها أحدٌ سواه وإياي، أعيدها إليكم لأنها أموال مقاومة وحقوق مجاهدين، أسأل الله أن ينفع بها الشهيد وأهله، وأن ينصر بها شعبه وبلده، شُدِهَ الحضور مما شاهدوا، إذ لو ذهب التاجر بما أخذ ما عرف عنه أحد، ولذهب في الدنيا بما كسب، ولكنها طهر المقاومة وصدق رجالها.
وأذكر الشهيد في بيروت ممسكاً بيد جهاد جبريل، يتحدثان معاً ويخططان لتجهيز سفن الأسلحة التي وردوا خمسةً منها إلى شواطئ قطاع غزة، حازت قوى المقاومة المختلفة على كثيرٍ منها، وإن كان بعض حمولتها قد وقع في أيدي سلطات الاحتلال، التي صعقت لحجم الدواليب وإطارات السيارات المحملة بالسلاح والراسي بعضها في قعر البحر، وبعضها الآخر محمولٌ على لجته وفوق أمواجه، تلتقطه أيدي رجال المقاومة.
وفي سنوات الإعداد الأولى التي عمل فيها وإخوانه في دمشق، ومنهم الشهيد عدنان الغول، مستعيناً بأصحاب الخبرة والكفاءة من قادة وكوادر التنظيمات الفلسطينية، رأيته يدخل الأردن مراتٍ كثيرة، يتسلل إليها مع الرعيان، ويمشي أحياناً مع الأغنام، وقد لبس فرو الخراف على ظهره، ولا يتردد أن يصل إلى عمان، ويعود بذات الطريقة التي تخفى بها إلى الشام من جديد.
أما الصرح العالي الكبير الذي كان لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" في دمشق بعد العام 2000، فقد كان للشهيد فيه الفضل الأكبر والجهد الأصدق، إذ رفع مستوى علاقاتها إلى الصف القيادي الأول، فجمع قادة الحركة في دمشق مع كبار المسؤولين السوريين، وصولاً إلى مقام رئاسة الجمهورية، وبجهوده وعلاقاته التي كانت تجمعه مع الدائرة الضيقة لماهر الأسد، كان له فضلٌ كبير في التأسيس للشراكة الاستراتيجية بين الحركة والقيادة السورية على كل المستويات السياسية والأمنية والعسكرية.
وشهدته في أيام الحرب الأولى على قطاع غزة نهاية العام 2008، يدور في الأرض ثائراً غاضباً، يتصل برفاقه في غزة، ويخابر إخوانه العاملين معه في الخارج، يطالبهم بتعجيل صفقات السلاح، وسرعة توريدها إلى القطاع، رافضاً القبول بأي عذرٍ أو الصمت عن أي تأخيرٍ أو ادعاءٍ بالعجز، وأشهد أنه أغرق غزة بالسلاح، وأعطى كل من سأل، وما بخل عن كل من قاتل، وما سأل أحداً ثمن ما اشترى، ولا مقابل ما دعم، إذ كان يؤمن أن فلسطين قوية بمقاومتها المسلحة، وأن المقاومة يجب أن تكون ثقافةً وسلوكاً عاماً عند كل الشعب الفلسطيني، رافضاً هيمنة فصيل أو سيطرة وتحكمِ آخر في السلاح.
وأذكره يوماً هائماً على وجهه غضبان أسفاً، إذ تنامى إلى سمعه نبأ اغتيال أستاذه ومسؤوله الأول في الجهاز العسكري القديم لحركة حماس الشهيد صلاح شحادة، الذي اغتالته قوات الاحتلال بقنبلةٍ يزيد وزنها عن طنٍ من المتفجرات، ما أدى إلى تدمير المبنى السكني في حي الدرج بكامله، واستشهاد عددٍ كبيرٍ من سكانه، من بينهم أطفال ونساءٌ وشيوخ، فكان رد فعل الشهيد محمود المبحوح أنه استنكر الحادث، ورفض خبر استشهاد صلاح شهاده، وأصر على أنه ما زال حياً، وأنه توارى عن النظار ولم يقتل، وسيبقى قائداً للجهاز العسكري لحركة حماس، وسيظهر في الوقت المناسب.
عندما استقر في وعي المبحوح شهادة قائده، وسلم بما حدث واستغفر الله لنفسه ولقائده، أقسم حينها أن ينتقم لصلاح شحادة، وأن يثأر له وللشهداء المدنيين الذي ارتقوا معه، وألا يدع ما قد جرى في غزة دون حسابٍ أو عقابٍ، ورأى أن العدو لن يتوقف عن استهداف المدنيين وقصف المساكن والبيوت الآمنة، إلا إذا دفع الثمن، وذاق من نفس لكأس، وتجرع المر كؤوسا وألوانا، فأقسم أن يزود المقاومة بأسلحةٍ رادعةٍ، وصواريخ موجهة، وقذائف ذكية، تكون قادرة على إلحاق أكبر الضرر بالمستوطنين الإسرائيليين، ليذوقوا وبال أمرهم، وليرتد كيد حكومتهم وعدوان جيشهم عليهم حسرةً وندامةً، وقد عمل المبحوح على الوفاء بقسمه والالتزام بوعده، وزود المقاومة في غزة بما يستطيع، وأمدهم بما تمكن عليه وهو كثيرٌ وكبير، كان له أكبر الدور في التأسيس والتطوير والتصنيع والتمكين.
تسعةُ أعوامٍ مضت على استشهاد الرجل المسكون بالمقاومة، العاشق للقتال، الحالم بالمواجهة، الموعود بالنصر، الواثق بالظفر، القلق على الأسرى، الحزين على الجرحى، المشتاق للشهادة، المحب للوطن، الثائر من أجله، والمضحي في سبيله، المرهف الحس، الرقيق المشاعر، سريع الدمعة كثير البكاء، رغم قوته المهولة، وعزمه الشديد، وإرادته الفولاذية، الصامت الهادئ، المتنكر المتخفي، الذي يكره المظاهر ويتجنب الصور وحب الظهور، العامل بالسر والنشط بالليل، الجوال المغترب، المسافر التَعِب، المغامر الجسور، والمنافس الغيور، الصلب العنيد، الصابر المكابر، الحذرُ الوَجِلُ، الواعي اليقظ، الكريم النفس، الجواد الروح، السخي المعطاء، المحب للضيف والسعيد بالأخ والصديق، البار لوالديه، الوفي لمحبيه، الصادق في وعده، والأمين في عهده، الصارم في قوله والحازم في فعله، الطاهر الروح السامي النفس الشهيد القدر والمقام.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي