يعتقد الإسرائيليون أنهم وصلوا في مشروعهم إلى مرحلة قطف الثمار، وتثبيت المكتسبات، وزيادة الحصص، وترسيخ الواقع كما يريدون، وتطويع العالم والجوار لما يحبون، ولهذا فقد بدأت أصواتهم تعلو وترتفع، لا لدواعي انتخابية فقط من أجل الحصول على أصواتٍ هنا أو هناك، بل علت أصواتهم وكثرت تصريحاتهم لاعتقادهم أن المرحلة اليوم هي مرحلتهم، والفرصة المتاحة لهم هي الأفضل منذ تأسيس كيانهم، وأن الزمان لن يجود عليهم بمثلها، فهم يتمتعون بقوةٍ كبيرةٍ، وتفوقٍ لافتٍ، وحليفٍ صادقٍ، ويشهدون تحولاتٍ إقليميةٍ عربيةٍ كانت بالنسبة لهم حلماً بعيد المنال، ولكنه اليوم يتحقق مع العديد من الأنظمة العربية تحالفاً وتعاوناً وتنسيقاً، ويترجم إلى زياراتٍ وبرامج عملٍ وتنسيقٍ وتعاونٍ.
قد يكونون دقيقين في تقديرهم، وموضوعيين في نظرتهم، إذ لم يبق من أرض فلسطين التاريخية خارج سيادة الكيان الصهيوني إلا القليل، علماً أنها كلها تحت سلطة الاحتلال العسكرية، وتخضع بموجب القوانين الدولية لأحكام القانون الدولي، الضابطة لسياسات سلطات الاحتلال في الأراضي المحتلة بالقوة، ولاتفاقيات جنيف الضابطة لسكان الأراضي المحتلة، إلا أن حكومات الكيان الصهيوني لا تلتزم بالاتفاقيات الدولية، ولا تحترم إعلانات وقوانين الأمم المتحدة ومنظماتها الإقليمية، وفي الوقت نفسه يمتنع مجلس الأمن الدولي، الخاضع لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا اللتين تتمتعان بحق النقض "الفيتو"، عن استخدام القوة ضد الكيان الصهيوني، أو إلزامه وفق البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة بتطبيق القوانين الدولية ومنع انتهاكها.
فقد تمكنت العصابات الصهيونية بعد حرب عام 1948 من السيطرة على 78% من أرض فلسطين، التي أعلنت عليها تأسيس كيانها، ونالت بموجبها اعتراف الأمم المتحدة بها، وكان الشطر الغربي من القدس قد سقط في أيدي العصابات الصهيونية، وألحق بالدولة الناشئة، وتم إعلان القدس عاصمةً لـــــ"دولة إسرائيل"، واعترف بها عاصمةً لكيانهم العديد من دول العالم.
حافظ الكيان الصهيوني على الأرض التي احتلها، بعد أن هجر ورحل أهلها، وأعاد تقسيمها وتنظيمها، وبسط نفوذه عليها، فغير معالمها وطمس هويتها، ودمر قراها وبلداتها، وأنشأ مكانها تجمعاتٍ وبلداتٍ جديدةً، أطلق عليها أسماءً عبرية، بعد أن حاول شطب الأسماء العربية التاريخية للمناطق والمدن والبلدات الفلسطينية، وبدأ في تنظيم أوسع وأكبر حملات هجرة يهودية، من مختلف دول العالم إلى الشطر الأكبر من فلسطين، التي احتلها وأخضعها لسيادته المطلقة، وطفق ببناء مدن جديدة وكيبتسوات زراعية وتجمعاتٍ سكانية مختلفة.
أما في حرب الأيام الستة في يونيو 1967 فقد تمكن جيش العدو الإسرائيلي من احتلال مناطق واسعة من دولٍ عربيةٍ عدة، فضلاً عن احتلاله لباقي أرض فلسطين بما فيها القدس الشرقية، إذ احتل شبه جزيرة سيناء المصرية، وهضبة الجولان السورية، والضفة الغربية بما فيها منطقة الأغوار التي كانت تخضع للتاج الهاشمي الأردني، وتمكن جيش الاحتلال الإسرائيلي من الدخول إلى أحياء القدس الشرقية، وإلى باحات وأروقة المسجد الأقصى المبارك، وحل جميع الأطر والمجالس والهيئات التي كانت في المدينة.
بدأ الإسرائيليون بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع مصر، التي أعادوا إليها شبه جزيرة سيناء، وبعد اطمئنانهم إلى خروج مصر من جبهة المواجهة العربية، بالتفكير جدياً في ضم الأراضي التي احتلوها، والإعلان عنها رسمياً جزءً من كيانهم، إذ وجدوا أن الفرصة مناسبة جداً لتنفيذ مخططاتهم وإنجاز مشاريعهم الدينية والقومية، في ظل انهيار النظام الرسمي العربي، والتشققات والتصدعات في جدار دول الصمود والمواجهة، التي اختلفت مع مصر وأخرجتها من إطار جامعة الدول العربية، الأمر الذي أدى إلى ضعف الجميع، فالتقطت إسرائيل الفرصة وأحسنت استغلالها، واعتمدت المرحلية في تنفيذ مخططاتها التوسعية، وبدأت بالقدس والأراضي الفلسطينية.
أعلنت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في يوليو من العام 1980 توحيد شطري مدينة القدس، وأعلنت سيادتها الكاملة عليها، وباشرت في توسيعها وزيادة مساحتها لتصل إلى أكثر من 600 كم مربع، وتتجاوز ما نسبته 10% من مساحة الضفة الغربية، ورغم عدم اعتراف كثير من دول العالم بتوحيد المدينة، واعتراضهم على القرارات الإسرائيلية، إلا أن حكومات الاحتلال واصلت إجراءاتها السيادية على المدينة وسكانها، إلى أن تمكنت أخيراً في نهاية العام 2017، من الحصول على الاعتراف الأمريكي وغيره بالقدس الموحدة عاصمة أبدية موحدة لـــــ"إسرائيل".
يتبع ....
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي