يعتبر أن سعي أفراد المجتمع نحو مصلحتهم الخاصة يحقق تلقائيا المصلحة العامة للمجتمع. لكنه تجاوز الاقتصاد إلى السياسة بالدعوة لمشاركة المواطنين في إدارة الحياة العامة من خلال مؤسسات منتخبة، وقوانين تقيد من سلطة الحكام.
ظهر مصطلح الليبرالية لأول مرة في إنجلترا في أواخر القرن الثامن عشر، وتم نحت هذا المصطلح آنذاك للدلالة على المذهب الاقتصادي القائم على مبادئ الملكية الخاصة والمبادرة الفردية وحرية العمل والتنقل والمنافسة.
كما استعمل المصطلح في السياسة للدلالة على المذهب الفكري والفلسفي الذي يدعو إلى إشاعة الحريات السياسية والفردية. ويبقى مفهوم الحرية هو الفكرة المحورية التي تتأسس عليها الليبرالية، مما يجعل البعض يصفها بمذهب الحرية.
ارتبط انتشار المبادئ الليبرالية بنتائج الثورة الفرنسية (1789) وظهور حركات ليبرالية منظمة في أوروبا، واجهت الأنظمة السياسية المحافظة، ودعت إلى وضع حد نهائي لمظاهر الحكم المطلق وإلى تحرير الشعوب من الاستبداد وحماية حقوقها السياسية والفردية.
كما سعت إلى إصلاح الأنظمة السياسية في بلدانها من خلال المطالبة بحقوق المواطنين في الإدارة وسن القوانين عبر المؤسسات التمثيلية، وسن دساتير تقيد من سلطة الحكام.
وقد كانت المبادئ الليبرالية في بداياتها منحصرة في أفكار الفلاسفة والمفكرين والأدباء (مثل روسو ومونتسكيو وفولتير)، إلى أن وقعت الثورة الفرنسية وأضفت عليها صفة المبادئ السياسية بعد أن ضمَّنتها في إعلان حقوق الإنسان والمواطن (26 أغسطس/آب )1789
وقد نص الإعلان على المساواة بين الناس، وأكد على الحقوق الطبيعية للإنسان، ونادى بمبدأ سيادة الأمة وفصل السلطات. كما صيغت هذه المبادئ في الدستور الفرنسي لسنة 1791 فتحولت إلى قوانين وتشريعات، وجعلتها البورجوازية سلاحا لتقويض أركان النظام القديم الإقطاعية.
الليبرالية الاقتصادية
تزعم الليبرالية أنه حينما تتوفر الحريات الاقتصادية (حرية الملكية والمبادرة والعمل والتنقل)، يكفي أن يجري كل فرد من أفراد المجتمع نحو مصلحته الخاصة كي تتحقق المصلحة العامة للمجتمع تلقائيا.
وترى تبعا لذلك أن الرابط الاجتماعي بين الناس هو رابط اقتصادي وأن النظام الطبيعي داخل المجتمع هو نظام اقتصادي يقوم على تبادل المنافع بين الأفراد، وتؤكد نتيجة لذلك على ضرورة خضوع السياسة لهذا النظام.
لا يتأسس النظام الاجتماعي وفقا للرؤية الليبرالية على إرادة مسبقة لأفراد عقلانيين منتظمين داخل مجتمع، وإنما على مجرد سعي كل فرد نحو مصلحته الشخصية بشكل أناني. والحفاظ على هذا النظام الاجتماعي يقتضي ضمان الحريات الاقتصادية للناس وتمكينهم من السعي اللا محدود وراء مصالحهم الأنانية.
وهذه المصالح كفيلة بالتفاعل فيما بينها والانصهار في مصلحة جماعية دون أن يكون ذلك عن سابق إصرار وتدبير أو بإرادة واعية من طرف أفراد المجتمع.
وكما يقول الفيلسوف والاقتصادي الكلاسيكي المعروف فإن يدا خفية تقود الأفراد في سعيهم وراء مصالحهم الشخصية نحو تحقيق المصلحة العامة للمجتمع دون الحاجة إلى يد مرئية (الدولة) لإرغامهم على ذلك ودفعهم نحوه دفعا.
ولذلك تركز الليبرالية كثيرا على أهمية إبعاد الدولة عن التدخل في تدبير الشأن الاقتصادي، والاكتفاء -بدلا من ذلك- بتوفير الحقوق الاقتصادية للناس وسن القوانين والتشريعات الكفيلة بضمان هذه الحقوق والسهر على حمايتها من أي انتهاك قد يمسها.
الليبرالية والتنمية الاقتصادية
يدافع الليبراليون عن أن النظام الاقتصادي الأمثل لتنظيم المجتمعات الإنسانية هو النظام الليبرالي (السوق الحرة)، وأن النمو والرخاء يتحققان للمجتمع بمجرد إشاعة الحريات الاقتصادية، وكف الدولة عن التدخل في الحياة الاقتصادية.
إلا أن الواقع والتجربة التاريخية يثبتان أن الأمر أعقد من ذلك بكثير، وأن التنمية الاقتصادية عملية بالغة التعقيد والتركيب، ولا ترتبط بالمحددات الاقتصادية فقط، وإنما تتعدى ذلك لتتأثر بمحددات ثقافية ومؤسساتية وسياسية ومجتمعية.
وقد أثبتت تجارب العديد من البلدان التي ركبت قطار التنمية الاقتصادية ولحقت بالدول المتقدمة (كاليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة والصين..) أن تدخل الدولة في تأطير عملية التنمية والاستثمار العمومي في المشاريع الصناعية الكبرى والمهيكلة، وتمويل البحث العلمي وضمان تطبيق مخرجاته في مجالات الاقتصاد المختلفة كان عاملا حاسما في تحفيز النمو والتقدم الاقتصادي.
ولم يكن تدخل الدولة إذن بذلك السوء الذي تصفه الليبرالية ويعتقد الليبراليون،ويكفي أن تتوفر عناصر الحكامة الرشيدة والرؤية السياسية السليمة، والإرادة الحقيقية حتى تتمكن الدولة من الاضطلاع بدور إيجابي ومكمل بجانب القطاع الخاص في الدفع بعجلة الاقتصاد إلى الأمام.
بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية.