من المعروف أن التربية نشاط أو عملية اجتماعية هادفة، وأنها تستمد مادتها من المجتمع الذي توجد فيه، إذ إنها رهينة المجتمع بكل ما فيه ومن فيه عوامل ومؤثرات وقوى وأفراد، وأنها تستمر مع الإنسان منذ أن يولد وحتى يموت؛ لذلك فقد كان من أهم وظائفها إعداد الإنسان للحياة، والعمل على تحقيق تفاعله وتكيفه المطلوب مع مجتمعه الذي يعيش فيه فيؤثر فيه ويتأثر به.
ولأن هذا التأثر والتأثير لا يُمكن أن يحصل إلا من خلال المؤسسات الاجتماعية المتنوعة التي تتولى مهمة تنظيم علاقة الإنسان بغيره، وتعمل على تحقيق انسجامه المطلوب مع ما يحيط به من كائنات ومكونات؛ فإن العملية التربوية مستمرة مع الإنسان منذ أن يولد وحتى يموت؛ وتتم من خلال المؤسسات التربوية الاجتماعية التي تتولى مهمة تربية الإنسان، وتكيفه مع مجتمعه، وتنمية وعيه الإيجابي، وإعداده للحياة فيه.
وتعد هذه المؤسسات التربوية بمثابة الأوساط أو التنظيمات التي تسعى المجتمعات لإيجادها تبعاً لظروف المكان والزمان، حتى تنقل من خلالها ثقافاتها، وتطور حضاراتها، وتحقق أهدافها وغاياتها التربوية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن المؤسسات التربوية لا تكون على نمطٍ واحدٍ، أو كيفية واحدة طول حياة الإنسان، إذ إنها متعددة الأشكال، مختلفة الأنماط، وتختلف باختلاف مراحل عمر الإنسان، وظروف مجتمعه، وبيئته المكانية والزمانية والمعيشية، وما فيها ن عوامل وقوى،كما تختلف باختلاف نوعية النشاط الذي يتتم ممارسته فيها.
وهنا يمكن تعريف المؤسسات التربوية بأنها تلك البيئات أو الأوساط التي تساعد الإنسان على النمو الشامل لمختلف جوانب شخصيته، والتفاعل مع من حوله من الكائنات، والتكيف مع من ما حوله من مكونات.
ويأتي من أبرز وأهم هذه المؤسسات التربوية في المجتمع الأسرة والمدرسة وجماعة الرفاق إلى جانب المسجد ووسائل الإعلام والأندية وأماكن العمل ونحوها من المؤسسات المختلفة التي تؤثر على تربية الإنسان سواءً كان ذلك التأثير بطريفة مباشرة أو غير مباشرة.
ومعنى هذا أن تربية الإنسان لا يمكن أن تتم إلا من خلال بعض المؤسسات أو الوسائط الاجتماعية المختلفة. ونظراً لكثرة المؤسسات وتنوعها واختلاف أشكالها وأنماطها؛ فقد عرف المجتمع المسلم عبر تاريخه الطويل عدداً من هذه المؤسسات الاجتماعية التربوية والتعليمية المختلفة التي كانت تناجاً طبيعياً للعديد من المطالب والتحديات والتغيرات الحضارية التي طرأت بين حين وآخر على العالم الإسلامي.
بل إن كل مؤسسة من المؤسسات التربوية التي عرفت في الإسلام إنما نشأت استجابة لحاجة وظروف اجتماعية معينة.
ويأتي من ابرز هذه المؤسسات التربوية والتعليمية ما يلي:
الأُسرة (المنزل): وهي الخلية الأولى التي يتكون منها نسيج المجتمع، كما أنها الوسط الطبيعي الذي يتعهد الإنسان بالرعاية والعناية منذ سنوات عمره الأولى.
وقد حث الإسلام على تكوينها والاهتمام بها لأثرها البارز في بناء شخصية الإنسان وتحديد معالمها منذ الصغر. وتتكون الأسرة في الغالب من مجموعة أفراد تجمعهم فيها ظروف المعيشة الواحدة؛ وتربطهم رابطة شرعية قائمة على المودة والمحبة.
وتعد الأسرة أهم المؤسسات التربوية الاجتماعية التي لها الكثير من الوظائف، وعليها العديد من الواجبات الأساسية حيث تُعتبر بمثابة الحضن الأول الذي يعيش الإنسان فيها أطول فترة من حياته، كما أن الإنسان يأخذ عن الأسرة العقيدة، والأخلاق، والأفكار، والعادات، والتقاليد، وغير ذلك من السلوكيات الإيجابية أو السلبية.
وللأسرة وظائف كثيرةٌ ومتنوعة لا سيما أنها تعنى بتنمية ورعاية جميع الجوانب الشخصية للإنسان في مختلف مراحل عمره، من أبرزها ما يلي:
العمل على تزويد المجتمع بالأبناء والبنات الصالحين.
تحقيق عوامل السكون النفسي والطمأنينة ويأتي ذلك تحقيقاً لقوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) سورة الروم: الآية رقم .21)
حُسن تربية الأبناء والقيام بواجب التنشئة الاجتماعية الإيجابية، والعناية بمختلف الجوانب الشخصية للإنسان (روحياً، وعقلياً، وجسمياً).
والحرص على توازنها وتكاملها لما لذلك كله من أثر في تشكيل وتكوين الشخصية السوية، والعمل على تفاعلها وتكيفها مع ما حولها من المكونات، ومن حولها من الكائنات بصورة ايجابية، وتستمر طول فترة الحياة.
الحرص على توعية أعضاء الأسرة وخاصة الصغار منهم بكل نافع ومفيد، والعمل على تصحيح مفاهيمهم المغلوطة، وحمايتهم من كل ما يهدد سلامتهم وسلامة غيرهم، وتعليمهم الأخلاق الكريمة، والآداب الفاضلة، والعادات الحسنة حتى يشبون عليها، ويتعودون على مبدأ التحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل.
إكساب أعضاء الأسرة الخبرات الأساسية والمهارات الأولية اللازمة لتحقيق تكيفهم وتفاعلهم المطلوب مع الحياة، وإكسابهم الثقة بالنفس، والقدرة على التعامل مع الآخرين.
الأسرة وبناء القيم والسلوك:
للوالدين في إطار الأسرة أساليب خاصة من القيم والسلوك تجاه أبنائهم في المناسبات المختلفة، ولهذا فإن انحرافات الأسرة من أخطر الأمور التي تولد انحراف الأبناء. فالتوجيه ألقيمي يبدأ في نطاق الأسرة أولا، ثم المسجد والمدرسة والمجتمع.
فالأسرة هي التي تكسب الطفل قيمه فيعرف الحق والباطل، والخير والشر، وهو يتلقى هذه القيم دون مناقشة في سنيه الأولى، حيث تتحدد عناصر شخصيته وتتميز ملامح هويته على سلوكه وأخلاقه؛ لذلك فإن مسؤولية عائل الأسرة في تعليم أهله وأولاده القيم الرفيعة، والأخلاق الحسنة، وليس التركيز فقط على السعي من أجل الرزق والطعام والشراب واللباس..، قال: "ألا كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع، وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسئولة عنهم.
-المدرسة والجامعة:
المدرسة في المطلق هي مؤسسة اجتماعية وأهم مؤسسة لتربية الطفل بعد الأسرة. إذ أنها تكمل دورها بتعليم الأطفال قيم وأهداف وعادات المجتمع محولة إياهم إلى كائنات قادرة على التفاعل والعيش مع أطفال آخرين. وتقوم المدرسة بهذا الدور من خلال المناهج الدراسية وعملية التدريب على النظام واحترامه.
واحترام الزمن وأهميته في حياتهم وتقوم بإزالة الطبقية وتداخلها واندماجها وضمان تكافؤ الفرص التعليمية. باعتبار التعليم حق للجميع وحق من حقوق لطفل.
إن انتقال الطفل من الأسرة إلى المدرسة يعني انتقاله من مجتمع صغير بسيط محدود إلى مجتمع أوسع اتصالا بالحياة "نظام وقوانين/ تكاليف وواجبات لم يألفها من قبل/ علاقات من نوع جديد/ منافسات جديدة/ التضحية بكثير من الميزات التي كان ينعم بها/ فمن كان مركز الاهتمام أصبح يعامل سواسية مع غيره/ لا يسخر من غيره ويحترم من يحدثه/ يلتزم الصمت في أوقات معينة/ لا يغضب أمام مصلحة الجماعة/ لا يأخذ أكثر من نصيبه.
أي أنه سيعاني من انتزاعه من مركزية الذات التي تسيطر على تفكيره ولغته وسلوكه" لأنه إلى حدود السابعة من عمره كما يراه يكون شديد الخضوع لدوافعه، مستغرقا في اهتماماته وأموره الخاصة مما يجعله عاجزا عن العناية بمشاعر الغير وشؤونهم.
أما بالنسبة للجامعة، فإنها المرحلة التي ينتقل فيها الشخص من مرحلة المراهقة إلى مرحلة الشباب ومرحلة التعلم من أجل الحياة، وهي المرحلة التي تبدأ فيها شخصية الشاب والفتاة بتحديد ملامحها.
والمفكرون والباحثون منذ عقود كثيرة من الزمن يؤكدون أن تحقيق الديمقراطية وإرساء القيم الأساسية للمشروع المجتمعي الديمقراطي مرهونان إلى حد كبير بتحقيق الديمقراطية في المؤسسة التعليمية التربوية. ويبينون في الوقت نفسه أن التربية على قيم المواطنة لا يمكن أن تتحقق من خلال دروس الشأن العام وحدها، فرغم أهمية هذه الدروس وقيمتها المعرفية، فإن التربية على قيم المواطنة يحتاج تحققها إلى عمل مكثف ومجهود متواصل لإرساء القيم التي تكتسي أهمية خاصة توازي بل تفوق أهمية المعرفة المدرسية، لأن جميع المعارف المدرسية يجب أن تخضع للقيم وتتضمنها، كما يجب تضمين القيم في كل الأنشطة التربوية المدرسية اليومية الأخرى وكل النظام التربوي المدرسي برمته حتى يتحقق الأمر المنشود
بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية.