استطاع الإنسان أن يحقق تطورا هائلا في مجالات وميادين متعددة، تمكن من خلالها خلق عالم آخر، يمارس فيه حياته بمختلف تجلياتها، بفعل المشروع النهضوي التحرري الذي نادى به وتصارع مع جهات مختلفة ليمنح لنفسه حرية التفكير واستعمال العقل، وجعله الشعار الأساس المحارب للجهل والعبودية، إننا نسعى في هذه الورقة أن نضع القارئ أمام موضوع يتماشى ونسق العصر وتطوراته، بالحديث عن العبودية الجديدة التي تعيشها البشرية بسبب التقنية، ونتساءل فنقول: هل تمكن الإنسان بفعل هذا التطور الهائل أن يتحرر من قيود العبودية أم أنه خطا خطوة أخرى نحوها؟
يظهر لنا مبدئيا أن ما حققه الإنسان من تطور وتقدم تكنولوجي أمر أسهم في ظاهره تحريرنا من مكابد الجهل والعبودية، التي كنا نعيشها حينما كنا مقيدين من سلطة تمنعنا من أي خطوة تقدمية يكون فيها العلم هو المشروع التنموي الأساس لإحداث انفجار معرفي، كبديل ناجع عن الظلام الذي ساد الإنسانية في تلك اللحظة، ولكن تتجلى في باطن هذا الازدهار مسائل معاكسة تماما، ونؤكدها بقول للفيلسوف المغربي محمد سبيلا في كتابه "مدارات الحداثة": "الناس يصارعون من أجل عبوديتهم كما كانوا يكافحون من أجل خلاصهم" (ص: 207).
يؤكد سبيلا أن ما تشهده البشرية من تطور تقني وبرمجي مذهل، أمر يؤدي بهم نحو عبودية من نوع آخر، مؤداها أنها تُشرعُ لهم طرقا يكافحون فيها من أجل خلاصهم، وعبوديتهم، ولنسطر على عبارتي من أجل عبوديتهم، ومن أجل خلاصهم، لنقول إجابة عن الإشكال الذي طُرح فيما مضى، أن التقنية -كما أشار كثير من الفلاسفة أمثال نيتشه وهابرماس وهايدغر- قد جعلت من الإنسان عبدا يطيعها، ويطبق أوامرها، ويستغرق معها وقتا طويلا يحاورها ويلامسها، الشيء الذي يؤكد فكرة هايدغر بلغة محمد الشيكر، أن التقنية أصبحت كائنا له وجود، لم يعد ينظر إليها كموجود بل كوجود، لنأخذ الهاتف مثلا، لكي نوضح لك المسألة، فالكثير منا ينغمس في هاتفه، ويلامسه، ويظل حريصا لكي لا يسقط منه، وينتبه إليه دائما، يشدد الحرص عليه لدرجة الصراع مع من يلعب به.
إنها عبودية جديدة، فقد جَعَلْنا الهاتفَ سيدا، يفرضُ علينا سلطته في كل شيء، وهذا هو الصراع الذي يقودنا نحو العبودية بتعبير سبيلا، وأما عبارة "يكافحون من أجل خلاصهم"، فنفسرها بالنظر إلى ما قبل ظهور التقنية؛ إذ كان الناس يتواصلون فيما بينهم، ويتعايشون ويتعاونون في إطار إنساني يسمى بالإنسانية، فقد جعلتنا التقنية نتخلى عن إنسانيتنا ومبادئنا، إننا نتسابق من أجل الخلاص، وهكذا يتأتى لنا أن التقنية قد سببت لنا عبودية من نوع آخر، جردتنا من مفهوم الإنسان بلغة الفلسفة، كما عرفه محمد سبيلا قائلا: "إن الإنسان في الوقت نفسه، حر بوعيه، وبقدرته على مراقبة لا شعوره، والتحكم فيه إلى حد ما" (مدارات الحداثة، ص: 21).
إن الإنسان بفعل التكنولوجيا لم يعد حرا، إنه أصبح مسيرا من درجة ثانية مُقادا نحو عبودية التقنية، يقول سعيد بنكراد في تقديمه لكتاب" أنا أوسيلفي إذن أنا موجود" للفرنسية إلزا غودار: "يبدو أننا وصلنا إلى حد الإدمان في ذلك، فلو اختفت شبكات التواصل الاجتماعي لا قدر الله، لأصيب نصف العالم بالجنون والاكتئاب" (ص:13).
أمر ظاهر طبعا، قد وصلنا إلى حد العبودية إن صحت العبارة، وبلغة إلزا غودار "لقد خضع وعينا في كليته لخلخة، لقد بدأنا نبتعد شيئا فشيئا عن أنفسنا"، وعن إنسانيتنا، وتمثل للقارئ الكريم مسألة عنونة المقال، بـ"الإنسان والعبودية الجديدة"؛ لأننا صرنا مقيدين وما زلنا نظن أننا نعيش في حرية وإنسانية، والأمر ليس كذلك، بل انتفى هذا، إذا ما تأملنا الأمور في باطنها، وبلغة فرويد ينبغي النظر في اللاوعي الذي تتجلى فيه الحقيقة.
كرست فينا التقنية أن نسهر معها، وأن ندللها وننظفها، وأن نكون حذرين منها، حتى لا يقع خطر ما، ينبغي مراقبتها حتى نكون في مأمن، أي خطوة تقدمنها في عصرنا هي خطوة نحو الخلاص والعبودية. قد أشرت إلى أن التقنية كما قال هايدغر هي كائن حي نخاطبه ويخاطبنا، نأمره ويأمرنا، ويحذرنا، ويهددنا، ويستعبدنا، ويجعلنا ننتبه من أي غفلة كيفما كانت، إن عالم التقنية يطلب منا الصمت والمراقبة حتى نعيش في سلام، فالصراعات والحروب التي تقع الآن، زاد انتشارها وتضاربها بفعل التقنية، إنها تعاقبنا، يقول الفيلسوف محمد سبيلا: "وكأن الإنسان لا يتحرر إلا ليخطو خطوة أخرى في العبودية، وكل خطوة في طريق التحرر هي في الوقت نفسه، وفي الحركة نفسها، خطوة في طريق العبودية، فالعلم والتكنولوجيا اللذان اكتسبا في بداية النهضة صبغة مشروع تحرري قد تحولا اليوم إلى أدوات سيطرة واستعباد" مدارات الحداثة، ص: 205.
منطوق النص ظاهر وبين، فتأمله وأعد قراءته، فإنه جوهر التساؤل الذي أسفرت عنه في هذه الورقة، ويتأتى لنا من النص فهم أن الإنسان في بداية النهضة، كان يحسب العلم والتكنولوجيا بمثابة مشروع تحرري، يحرره من قيود الجهل وعصور الظلام، إلا أنه بعد مدة تبين أن هذا المبتغى، قد خطا به خطوات أخرى، تحول فيها مشروع النهضة من التحرر، إلى السيطرة والاستعباد.
ونختم هذه المقالة بنص لسارتر يقول فيه: "الإنسان حر، الإنسان حرية، إننا وحيدون من دون أعذار، وهذا ما سأعبر عنه بقولي إن الإنسان محكوم عليه بأن يكون حرا، محكوم عليه أنه لم يخالف ذاته، وهو من ثم حر لأنه بمجرد القذف به في العالم فإنه يصبح مسئولا عن كل ما يفعل" (مدارات الحداثة، ص:105).
وعليه فقد سلبت منا التقنية الإنسان الحر، وإنسان الحرية، إذ صرنا في سيطرة واستعباد، عبر عنهما سبيلا بالصراع من أجل عبوديتنا، والكفاح من أجل خلاصنا وهلاكنا.
بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية.