
محمود الجاف
يُولد الطفل حرًّا نقيًّا لم يلوث قلبه الخوف ولا عرف للإذلال طريق . ثم يُفرض عليه تحقيرا يُسمّى تربية تُغلفه شعارات دينية أو اجتماعية، لكنها في حقيقتها تزرع الخضوع لا الطاعة وتكسر الإرادة ولا تُنمّي الضمير . فالخوف الذي يُغرس في الصغر لا يُمحى مع الكِبر بل يبقى مختبئًا في زوايا النفس؛ يحكم ردود الأفعال ويقيّد الأحلام ويجعل الطفل عبدًا لندوبٍ لم يفهمها رغم انه عاشها . كم من والدٍ ظن أن القسوة تصنع رجولة وأن الإذلال يُعلم الاحترام فكرر ما تعرّض له دون وعي بأن الخدمة التي تصدر من قلبٍ مكسور ليست حبًّا بل خوف. وأن التواضع الناتج عن قهرٍ ليس فضيلة بل انكسار .
والسؤال الأهم ..
هل نغرس في أبنائنا قيمًا إنسانية حقيقية ؟
أم نُعدّهم لقبول الانكسار ؟
فالكرامة لا تُعلَّم نظريًّا بل تُعاش . والنبل لا يُلقَّن بل يُرى في سلوك الكبار . حين يُجبر الطفل على طقوس تُظهِره في موقع أدنى، مهما كانت النية، فهو يحمل في داخله شعورًا بالإهانة. وربما يكبر خائفًا من الرفض عاجزًا عن قول ( لا ) أو متمردًا بعد كبتٍ طويل . نحن لا نُنشئ جيلًا كريمًا إذا علّمناه الخنوع تحت غطاء التواضع بل نصنع عبودية نفسية مدمرة . والأسوأ أن يتم ذلك باسم الدين فيُلبَس القهر ثوب القداسة ويُشوَّه مفهوم التربية . بينما الإسلام الذي جاء ليحرر الإنسان جعل الكرامة قيمة عليا .
قال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ الإسراء : 70
فأي رسالة نرسلها للطفل حين نعلّمه أن يغسل قدم من لا زال ظلمه واقعًا على وطنه؟ ..
أي درسٍ نمنحه حين نصوّر أن الغفران يمكن أن يُمنح بلا عدالة أو أن كرامة وطنٍ تُنسى تحت موطئ قدمٍ غريب؟
يا أيها الأب حين جعلتَ ابنك يغسل تلك الأقدام بأي ماء فعلت؟
بدموع أمٍّ عراقية؟
أم بذاكرة وطن احترق ثماني سنوات ولم يخمد بعد؟ .
هل نسيت القذائف التي كانت تعدّ أعمارنا؟
هل نسيت اليد التي امتدت على أرضك ونهبت ودمّرت وحرّضت؟
كيف انحنى قلبك أمام من شارك في تمزيق وطنك؟
هل طمست السنوات ملامح الوجع حتى غدت طهران مدينة سلام في عينيك؟
أنا لا أعاتبك لأنك غفرت . بل لأنك نسيت . والنسيان حين يكون الوطن هو الجريح خيانة . لم نطلب منك سلاحًا بل ذاكرة . لم نرد انتقامًا بل كرامة . علّم ابنك أن التسامح لا يكون بطمس الحقيقة وأن اليد التي تصافح يجب ألا ترتجف من الخوف وأن من ذبح أحلامنا لا يُغسل بل يُحاسب . نحن قوم ذاكرة لا حقد . نحن أبناء جراح لا انتقام . لكننا نعرف أن التربية الحقيقية تُنبت وعيًا لا انكسارًا . وتُنشئ كرامة لا عبيدًا بأقنعة الفضيلة .
