إن عسكرة المجتمع تمثل تعبيراً حقيقياً عن أزمة مركبة اجتماعياً اقتصادياً سياسياً وثقافياً شكلت تهديداً للنسيج المجتمعي، ولها آثار تفرزها ظاهرة العسكرة في عملية البناء الاجتماعي في العراق.
يُعد موضوع عسكرة المجتمع من أبرز وأهم الظواهر والمشاكل التي تعاني منها دول العالم النامي على مدى عقود عديدة من الزمن، والتي انتجت تداعيات خطرة على صعيد المجتمع ككل، فعسكرة المجتمع تعني هيمنة القيم العسكرية على الحياة المدنية، وسيطرة العنف كأداة لحل الخلافات المجتمعية، على اعتبار أن العسكرة هي واقعة اجتماعية سياسية تاريخية ووظيفية، تنطوي على صفة الارغام، وهي موجودة في المجتمع قبل أن يكتسبها الفرد .
والحقيقة أن هذه الظاهرة هي ثقافة ونزعة وميلان وجنوح نحو القوة والسلاح كأحد رموزها الواقعية والتي تحمل بين طياتها قيم مفاهيم العنف، وهذا يعني أن العلاقات الاجتماعية التي قد تنشأ في ذلك المجتمع المعسكر تكون محملة بمظاهر العنف والقتال في ظل تراجع مظاهر الحوار والتفاوض بين الأضداد، ونتائج ذلك تكون زيادة في معدلات الجريمة نتيجة لتفكك قيم الترابط الاجتماعي الطبيعية بين المكونات الاجتماعية المختلفة.
إن مفهوم عسكرة المجتمع يشير إلى طغيان الطابع العسكري على المجتمع المدني بحيث يصعب علينا أن نجد حداً فاصلاً بين الاثنين، ومن الأسباب الرئيسة لهذه الظاهرة هي مجموعة من العادات والأعراف والتقاليد التي اعتاد عليها مجتمع ما، وأصبحت جزءً لا يتجزأ من حياته العامة والشبيه بطابع التقاليد العسكرية المتعارف عليها في المؤسسة الرسمية.
وظاهرة عسكرة المجتمع تعمل على تفكيك منظومة القيم والمعايير الاجتماعية المدنية الثابتة، لتحل محلها قيم الحرب والخوف في المجتمع عن طريق عسكرته بتوظيف جيد لوسائل الإعلام للتركيز عليها، حتى تنتج حالة من اللاوعي المجتمعي يتسم بالعنف.
وللثقافة العشائرية بما تحمله من قيم وعادات لعبت دوراً في تشجيع عسكرة المجتمع العراقي، من خلال تشجيع التفاخر بالغالب، ومن هنا أصبح اشتراك الفتية والشبان في الحروب العشائرية أمراً طبيعياً، يعكس رجولتهم المبكرة، حيث تستخدم الأسلحة بوصفها مظهراً من مظاهر العزة والرجولة، وتبدي استعداداً ورغبة للصراع مع الآخر لأدنى الأسباب، ووصل الأمر إلى حد عدم سماح العشائر بتدخل الأجهزة الأمنية لفض النزاع، وكان هذا جلياً من خلال قتل عميد بالجيش العراقي، وهو الذي أثارنا لنناقش هذه الظاهرة.
بعد تغيير النظام السياسي عام 2003 شهد ظروف وتحديات أسهمت في تخديش المنظومات القيمة المجتمعية، وشيوع القلق والخوف والاحباط بين أفراد المجتمع، يرافق كل ذلك مشكلات اجتماعية وسلوكية معقدة والمتمثلة بضيق فرص العمل وتراجع النظام الصحي والتعليمي وضعف وسائل الضبط الاجتماعي الرسمية وغير الرسمية مما أسهم في بروز مظاهر العسكرة بمختلف تصانيفها كحل لمواجهة تلك التحديات.
وظاهرة التسلح في المجتمع العراقي واسعة، باتساع الرغبة الجامحة في امتلاكه، تحت هاجس حفظ الأمن الشخصي، وهذا من نتائج فقدان الثقة بالسلطة، التي يفترض ان تكون حماية المواطن وأمنه في مقدمة أولوياتها.
ومن أهم المؤشرات التي يمكن أن تشخص ظاهرة عسكرة المجتمع أو من الأسباب التي تساعد على هذه الظاهرة هي (التهجير القسري، العشوائيات التي انتشرت بشكل واسع، التفكك الأسري، تراجع معدلات الالتحاق بالمدارس وتفضيل حمل السلاح، نسبة الطلاق المتزايدة، ظاهرة التسول المنظمة، ...).
ولِما ذكرناه آثار وتداعيات سلبية، فمن الناحية الاجتماعية يتضح الخطر من خلال توتر المزاج العام للمجتمع وسرعة الاستثارة، وهذا مؤشر على ارتفاع مستوى العنف في المجتمع العراقي، وللجانب الاقتصادي دور في تنامي هذه الظاهرة، حيث للظروف الاقتصادية التي يمر بها العراق ساهمت في بروز عسكرة المجتمع ولتسير الاقتصاد العراقي نحو المجهول، لا سيما بعد اعتماد العراق باقتصاده على النفط بشكل كبير وتفشي البطالة مما دفع بالأفراد الانتماء للفصائل المسلحة لضمان لقمة العيش، أما سياسياً فقد أسهمت عسكرة المجتمع في وجود حالة من عدم الاستقرار السياسي من خلال مشاركة الفصائل المسلحة في الحياة السياسية ، والتهديد باللجوء لاستخدام السلاح عند أي خلاف.
البلد نجح في تقليص الأنشطة الارهابية، وانتصر على الارهاب، فهل ينجح بالتخلص من هذه الظاهرة؟، نعم العراق قادر على ذلك إن كانت هناك إرادة حقيقية، من خلال التفعيل الحقيقي لدور المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وعقلنة عمل مؤسساتها، إضافة إلى الاهتمام والتوجيه ضد ظاهرة عسكرة المجتمع في المناهج الدراسية وفي كافة وسائل الاعلام، ونشر روح التسامح وتبذ العنف من أجل الحفاظ على وحدة المجتمع، والأهم من كل ذلك تفعيل دور الجيش وقوى الأمن لمحاربة هذه الظاهرة والضرب بيد من حديد لكل من يعتبر نفسه فوق القانون.
د. صلاح الصافي