كانت معلمة في مدرسة إبتدائية، تعلم تلاميذها القراءة، عندما جاءتها رسالة من وحدة زوجها الجندي داخل الأراضي الإيرانية، تخبرها بأن زوجها فقد في المعارك هناك.. فلم تستطع قراءتها.
إنشغلت السيدة في تربية أبنائها الثلاثة ورعايتهم، وكلها أمل أن يأتيها خبر عن زوجها، يخبرها أنه وقع في الأسر، أو يأتون بجثمانه، فتدفنه وترتاح، وتأخذ أطفالها لزيارته في كل عيد.
مرت السنين وإنتهت الحرب، ولم يأت خبر منه، وكأن القدر غيب ذكره، حاله حال كثيرين من الجنود الذين ضاع ذكرهم، وما زال أهلهم لا يملكون خبرا عنهم.. إلا ذكراهم، وحزن مكبوت يهد الجبال.
كانت حريصة على أطفالها، وتسعى الى تنفيذ طلباتهم، وتعويضهم غياب والدهم، فلا تبخل عليهم في أي طلب، يلبسون أفضل ملبس، ويأكلون أحسن الأكل رغم العوز، فأغلب راتبها يذهب إيجارا للبيت والحاجات الضرورية.
جاءت أحداث عام 1991 وهزيمة الجيش العراقي بعد دخوله الكويت، وحال مدينتها حال أغلب المدن العراقية، إندلعت فيها الإنتفاضة الشعبانية، خلت من تواجد حزب البعث وإفرغت مقراته، ولم يكن أحد من البعثيين يتجرأ على التواجد في المدينة.
كل المحافظات العراقية إنتفضت، من البصرة وصولا الى بغداد، وأعلن العراقيون جهارا نهارا رفضهم لنظام الطاغية وحروبه العبثية، لكن الطائرات المروحية والمدفعية، صارت تقصف المدن العراقية مدينة بعد أخرى، لا تفرق بين منزل أو مسجد، وقوات الحرس الجمهوري تجتاح الشوارع، تدخل الى البيوت وتعتقل من فيها، وتسوقهم الى مقاصل الإعدام.
جاء الصباح وإذا الدبابات تدخل المدينة، هدمت بيوت بعض الأهالي وكسرت محلاتهم، وإعتقلت كثيرا من الشباب الأبرياء، لكن مرض إبنها الصغير أضطر السيدة الى أخذ حقيبتها الصغيرة، والخروج بحثا له عن علاج، وهي مطمئنة أن لن يعترضها أحد، فالحرس الجمهوري كلهم عراقيون ويحترمون النساء، وربما يساعدونها في الحصول على ما تريد، هكذا كانت تظن.. فكان الخروج الأخير لتلك المعلمة ولم تعد بعدها الى البيت !
سأل عنها أخوتها، أقاربها، جيرانها، علهم يعثرون على خبر لها، فكانت الإجابات تأتيهم: لا نعلم، ذهبوا الى مدن أخرى، لم يعثروا على أي خبرا عنها، وكأنها فقدت حالها حال زوجها..
بعد مدة جاءهم رجل يلبس الزيتوني، وكرشه يتدلى فوق نطاقه، واضعا مسدسه على خاصرته، ينفث دخان سيجارته في وجوه الحاضرين، ليخبرهم بأنه حصل على معلومات تفيد بأن المعلمة هاربة مع عشيقها الى بغداد!
خبر نزل على الصاعقة على أهل السيدة وأبنائها، جعلهم يتمنون أن لو أنها ماتت، أو أنهم ماتوا ولم يسمعوا بهذا الخبر، الذي أنتشر في المدينة كما تنتشر النار في الهشيم، وصاروا يمشون مطأطئي الرؤوس خجلا من العار، ومن نظرات الناس وهمساتهم وكلامهم، فعاش الأبناء في حسرة وألم بين فقدان الوالد وعار الأم.
مرت السنوات، وكبر الأبناء وهم يتجرعون الذل والمرارة مع كل لقمة وكل نظرة وكل همسة، حتى سقط النظام البائد عام 2003، ويبدأ الكشف عن المقابر الجماعية، وبدأت الهياكل العظمية المدفونة تنادي أهلها، كان حصة محافظة بابل منها خمسة عشر ألف جثة.
في إحدى حفر مدينة المحاويل تم العثور على رفاة سيدة معها حقيبة صغيرة، وبعد فتحها والتعرف على المستمسكات فيها، تبين أنها لتلك المعلمة التي هربت مع عشيقها! وتركت أبنائها يعيشون الذل لسنين!
ما زال أهل المدينة ينادون أولادها بأبناء المعلمة، و تحول النداء من العار الى الإفتخار، لكن السؤال الذي لم يعرف إجابته أحد: بأي ذنب دفنت تلك السيدة؟.
ثامر الحجامي