تأثير العولمة في النظام الثقافي لا تعيش الثقافة في الفراغ ولكن في سياق تاريخي واجتماعي يحدد ترابية القيم المؤثرة فيها في هذه الفترة أو تلك والتوجهات العامة والأفكار التي تحرك المجتمع الذي يخضع لها في كتلته الرئيسية.
فهي تتبلور في إطار ما نسميه نظاما ثقافيا يعكس هذا الترتب ويجسده معا ويحدد منظومة الأفكار والقيم التي تفرض نفسها في المجتمع وتصبح ملهما للسياسات الرسمية من جهة، ومصدرا لنيل الشرعية في النظم الاجتماعية المرتبطة بها وبالنسبة للنخب العاملة عليها من جهة أخرى.
وهو ما اصطلح على تسميته في العلوم الاجتماعية بالإيديولوجية السائدة.
وبصرف النظر عن الأوضاع السياسية، سيطرت على النظام الثقافي العربي لحقبة ما بعد الاستقلال منظومة القيم الوطنية التي ارتبطت ببناء الهويات السياسية الجامعة وارتبط بهذه الثقافة الوطنية مجموعة من القيم الإضافية المشتقة منها أو الموضوعة في خدمتها، مثل قيم التكافل الاجتماعي والعدالة التي اتخذت في بعض الأقطار صورة تبني الأفكار الاشتراكية، آما ارتبط بها مفهوم خاص للعلاقات الدولية والإقليمية يؤكد على وشائج القربى بين الشعوب العربية من جهة، ويحث على التضامن بينها في مواجهة الاستعمار والامبريالية من جهة ثانية.
آما ارتبطت بهذه الثقافة أيضا مجموعة من القيم الحداثة التي تنادي بتقليص دور السلطات التقليدية والأهلية، سواء أكانت سلطات رجال الدين أم زعماء العشائر أم السلطة الأبوية في الحياة السياسية والاجتماعية معا.
ونشأ عن جميع هذه التوجهات والتفصيلات ثقافة تربط بين ثلاثة عناصر رئيسية مؤسسة للحداثة في المجتمعات العربية لما بعد الحقبة الاستعمارية: أولا التأكيد على الهوية العربية والعروبة بشكل عام كمحتوى رئيسي لهذه الهوية إلى جانب الهوية الدينية وأحيانا فوقها أو ضدها، وثانيا التقدمية التي يمكن أن تتخذ شكل تبني قيم النزعة الإنسانية أو شكل التعلق بالقيم الفردية التحررية أو الليبرالية، وثالثا العداء للهيمنة الأجنبية التي يشكل الاستيطان اليهودي في فلسطين تجسيدها الأقصى، والتمسك بالاستقلال والسيادة الوطنيتين 24 وفي موازاة تصدع النظام الوطني وتبدل طبيعة النظم الاجتماعية نفسها وتحولها من نظم وطنية ذات محتوى اجتماعي ينحو نحو التكاتف في وجه القوى الأجنبية والقوميات المنافسة الأخرى، إلى نظم أوليغارشية تخدم الفئة الحاكمة وبعض الفئات الصغيرة الأخرى التي تدعمها أو تتحالف معها، بدأ النظام الثقافي السائد يتعرض للتفسخ أيضا.
وآما اختفى مشروع الوحدة العربية من العقيدة الرسمية صارت العودة إلى مفاهيم العصبية الوطنية، بمعناها الأكثر تطرفا وضيقا، معيارا للتكيف مع الوضع الجديد وتأمين المساندة الخارجية.
وأدى التراجع عن مشاريع التنمية الطموحة وخطط الدولة، بحجة إعطاء المسؤولية في تحقيق الازدهار الاقتصادي للقطاع الخاص والرهان على جذب الاستثمارات الأجنبية، إلى انحسار أسطورة الدولة الراعية ومع تفاقم القطيعة بين الطعم الحاكمة والمجتمعات وسعي الأولى، في سبيل الحفاظ على بقائها في السلطة، إلى التخلي عن السياسات الوطنية ببرامجها المختلفة لصالح التحالف مع القوى الأجنبية والتعويض بدعمها الخارجي عن انحسار مشروعيتها الداخلية، بدأ الخطاب القومي المرتبط بالعداء للخارج يفقد الكثير من صدقيته.
وفي جميع البلدان العربية نظر الجمهور الواسع إلى التراجع عن تطبيق البرامج الرئيسية التي شكلت محتوى الحركة الوطنية العربية، وتفريغ الدولة الوطنية من محتواها الاجتماعي وتحويلها إلى أداة لخدمة نظم عائلية أو عشائرية، على أنه خيانة.
ومما فاقم من هذا الشعور تراجع النظم نفسها عن ادعاءاتها الوطنية، وتنامي مراهنتها على التحالف مع الدول الكبرى والاعتماد عليها في حل المشاكل المحلية بما فيها التحديات الوطنية، وفي مقدمها المسألة الفلسطينية.
وجاء الانتقال السريع منذ الثمانينات نحو نظم تسلطية تعتمد في بقائها على الأجهزة الأمنية، واختصار السياسة نفسها في مهام ضبط الأمن وتحقيق الاستقرار، ليطابق بين الدول نفسها.
وأدوات القمع والتحكم الآلي بالمجتمعات وتذليلها لخدمة مصالح النخب الحاكمة وحلفائها وبقدر ما ساهمت العولمة في تحلل الدولة الوطنية وتفكيك برامجها التقليدية في المنطقة العربية من دون أن تقدم بديلا آخر لها سوى الفوضى، وسطو آل صاحب سلطة أو موقع في الدولة والمجتمع على ما يقع تحت يديه من موارد مادية ومعنوية، وتجبيرها لحسابه الخاص وحساب عائلته وعشيرته، فتحت الباب أيضا أمام تحلل مماثل لثقافة الحداثة الوطنية وانحسار مضطرد للنفوذ الواسع الذي كانت القيم المرتبطة بها قد أحرزته في العقود الطويلة السابقة.
ولا شك أن انتشار أفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي، بعد غياب طويل، يدين بقسط كبير منه إلى انحسار هذه الثقافة الوطنية/القومية وقيمها التي تحدثنا عنها.
وقد شكلت استعادة الفكرة الديمقراطية نافذة للتواصل مع العالم وجزءا من العولمة الثقافية التي ساهمت في وضع العالم العربي على المستوى نفسه من تبدل التوجهات الفكرية العالمية.
وفي سياق انتشار العقيدة الديمقراطية، استعادت الثقافة مفاهيم الفرد وقيمها آما استعادت مفاهيم جديدة للسلطة والحياة السياسية، تندرج في 49 دائرة الفكرة المواطنة لكن منظومة القيم الديمقراطية الجديدة لم تمس بعد في الواقع سوى قشرة رقيقة من المجتمع تضم تلك الشرائح الثقافية النقدية وبعض أبناء الطبقة الوسطى الذين بقوا مخلصين لقيم الليبرالية، أو على اتصال وثيق بالتحولات العالمية السياسية والفكرية.
لقد ترك انحطاط الفكرة الوطنية وتفسخها عالم المجتمع الواسع مجردا من أي مرجعية فكرية أو أخلاقية سياسية ومع التحرر من الثقافة والقيم الوطنية لم يحصل الربط من جديد مع الثقافة العربية، في صورتها الدينية أو الأدبية أو الفلسفية أو الصوفية، ولا من باب أولى مع الثقافة الغربية، ولكن ما حصل هو انحسار حقيقي للثقافة والقيم الثقافية نفسها وفي جميع أشكالها والانكفاء نحو منظومات تعكس عودة العصبية والتماهيات الطبيعية.
وفي موازاة ذلك أصبح الاستهلاك والسعي إلى متراكمة الأشياء المادية وتحقيق الملذات الحسية بأقصى طاقة هو معيار السعادة والالتحاق بالإنسانية عند الأغلبية.
وفي هذا الإطار نفسه للتجرد من أي ثقافة، لأن التسليم للأهواء الطبيعية ليس مصدرا لأي واحدة منها، لم يعد للفرد من مرجعية في توجيه حياته وسلوكه سوى المصالح الفردية وتضخيم معايير الحياة الشخصية.
لم يعد هناك في عصر العولمة العربية وجود فعلي لمواطنين ولا لوطنيين ولا لمؤمنين وإنما لمئات ملايين المستهلكين فحسب وفي غياب شروط تحقق الإنسانية الاستهلاكية في مجتمع يفتقر للقوة الشرائية والإمكانيات، لم يكن أمام الأغلبية من حل آخر لمواجهة الإحباط المستمر سوى الانكفاء على التقاليد الدينية، لا في سبيل تصعيد الغرائز والتسلح ضد الإحاطات الشاملة فحسب ولكن، أآثر من ذلك، في سبيل ملء فراغ الحياة الثقافية أو التغطية عليه.
من هنا لم يغير التدين من سيطرة معايير الثقافة الاستهلاكية ولا حد من سطوتها، تماما آما أنه لم يشكل مدخلا إلى تجديد الثقافة العربية الإسلامية والربط الجديد مع مواردها وقيمها الروحية والفكرية العظيمة.
ومن هنا بقي التدين حالة طقوسية تماهوية ولم يتحول إلى أرضية لاسترجاع القيم الإنسانية التي ارتبطت بالدين، بما تنطوي عليه من الأخوة والتسامح والتواصل والحميمية، بل ربما جاء ليعوض عنها ويقطع الطريق عليها في الوقت نفسه.
ولذلك لم تغير موجة التدين الجديدة لا في سلوك الأفراد العميق ولا في أسلوب تعاملهم مع أنفسهم ومع الآخرين ولا في تطلعاتهم وطريقة تحقيقهم لها.
إنه أعطي الانطباع، من خلال ما فرضه على المتدين من ممارسة يومية ومنتظمة لطقوس يفترض أن لها معنى دينيا أو توحي بذلك، بامتلاك أرضية ثقافة، أي بامتلاك مرجعية تساعد على تكوين اختيارات شخصية.
والحال أن جوهر الاندراج في التدين الراهن هو انمحاء الذاتية، وتعويض النفس التي لا تملك في الواقع أي خيار أو غير القادرة على الاختيار، عن ذلك بالتأكيد على هوية جماعية لا 25 تتحقق بالوعي الذاتي والاختيار ولكن بالمشاركة الآلية في طقوس جماعية، أي من خلال إلغاء الحاجة إلى الاختيار والتفكير في معنى الاختيار نفسه لكن ثقافة الديمقراطية التي تمس شرائح محدودة من المثقفين والطبقات الوسطى المهنية وثقافة الاستعادة الطقوسية للقيم الدينية ليستا الثقافتين الوحيدتين اللتين حلتا محل الثقافة الوطنية الكلاسيكية.
فحيث يفتقر الفرد للذاتية الفردية الضرورية لحمل قيم الديمقراطية ومطالب الاشتراك في الحياة العمومية ولا ينجح التدين الطقوسي أو ألتمائمي في تذويب الذاتية الفردية وإخفاء الفراغ الثقافي، وما ينطوي عليه من عجز عن الاختيار الأخلاقي، تبرز ثقافة ثالثة أقلوية لكن ذات قوة استثنائية.
أعني بها ثقافة العنف بأشكاله الانتحارية المتعددة الموجهة نحو الذات ونحو الخارج في الوقت نفسه.
فمن الممكن أن يقود إخفاق التجربة الأصولية، أي فشل تعويم الفردية في التدين ألتمائمي، إلى تحويل الانتماء الديني نفسه إلى اختيار أخلاقي ثقافي.
وفي هذه الحالة يصبح التمرد على آل ما هو غير ديني وتدمير آل النظم التي تخالف هذا الاختيار الكلي الطريق الوحيدة لتجاوز مشاعر الفشل والرد على عالم لا يثير إلا الإحباط واحتقار الذات.
فكما أن ثقافة الديمقراطية نشأت هنا في إطار العولمة فإن الإرهاب هو أيضا ابن سياق العولمة ذاتها بقدر ما أن الضياع والتجرد من الثقافة وانعدام القدرة على الاختيار هو أيضا من ثمراتها الرئيسية فالقيمة الثقافية الرئيسية التي تنشرها العولمة والتي تؤسس لانتشار الديمقراطية والعقيدة الاستهلاكية والأصولية التمائمية فكما تقوم الديمقراطية بتثقيل 50 والممارسة الإرهابية جميعا هي الفردية المنخلعة من إطارها والباحثة عن معنى لوجودها هذه الفردية وتفعيلها من خلال استثمارها في القيم الكلاسيكية الأخلاقية والسياسية، تقوم الحركات الإرهابية بتفعيلها من خلال روح التمرد والنقمة على الحضارة المحبطة واللا إنسانية.
بينما يقدم التدين الطرقي القائم على التسليم بالقيم الدينية المتحولة إلى طقوس واضحة وصريحة لا تتطلب الاختيار ولا تطرح مسألته، الوسيلة الأبسط للتغلب على مشاعر الانعدام والدونية أو بالأحرى الافتقار للإنسانية، أي ببساطة أيضا للثقافة والمقدرة على تحديد وجهة السلوك وغايات العمل والحياة الإنسانية هذا هو ما نسميه بأزمة الهوية التي تطرح مسائل عديدة وفي مقدمها تحديد المرجعية الجمعية.
ومن النافل القول إن هذه فالحرب هي التعبير الأوضح عن غياب 51 الأزمة تحمل في طياتها آل بذور الصراع والنزاعات الداخلية والخارجية التفاهم والتواصل والاتساق الذي لا يقوم إلا بالثقافة وبفضل ما تمده من جسور لا مرئية بين الذوات الفردية، بل بقدر ما تنشي الذاتية نفسها بوصفها تعبيرا مفردا عن الهوية الجمعية.
وما يميز الوضع الثقافي العربي الراهن هو الحرب الثقافية 52 بالمعنى الحرفي للكلمة: الحرب الثقافية الداخلية التي تشق المجتمع بين معسكرين إيديولوجيين، إسلامي وعلماني ، وحرب ثقافية خارجية تضع العالم العربي وجها لوجه أمام حملة تشويه وتدمير منتظمة لرمزية الثقافة والهوية العربية والإسلامية في سياق ما سمي بحرب الحضارات أو الصدام بين الثقافات.
والتي تهدف إلى تشكيك الفرد بثقافته وقدرة مجتمعاته على 53 البقاء والاستمرار من دون تغيير هويتها والانسلاخ عن جلدها فلم يكن العالم العربي يظهر في أي حقبة سابقة متباينا في ثقافته وسلوك مجتمعاته ونظم حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع المعايير العالمية السائدة، أي مناقضا للحداثة والديمقراطية والعلمانية، آما هو عليه اليوم.
حتى أصبحت الحرب الحضارية مفهوما موجها بشكل رئيسي لوصف العلاقات بين العرب والغرب، وأصبح الحديث عن الاستثناء العربي فكرة مقبولة ومأخوذ بها عالميا.
ولم يكن الفرد في العالم العربي أآثر شعورا بالاختلاف والغربة والاستلاب في حضارة العالم والعصر، وبالتالي أآثر تعاسة وبؤسا ويأسا، آما هو عليه اليوم. ويدخل في هذا الإطار الشعور المتزايد بالهوة التي تفصل النظم السياسية العربية والقيم التي تنشرها أو تعبر عنها عن الثقافة السياسية العالمية وما ترتبط بها من 54 تأكيد على الحريات والحقوق الإنسانية باختصار، دفعت الضغوط الداخلية والخارجية، ولا تزال، إلى تعميق أزمة الهوية والتراجع عن سياسة بناء الثقافات الوطنية السابقة القائمة على تعزيز إطار بناء الكوادر الوطنية وتوطين الحداثة واستنباتها في الثقافة والبيئة العربيتين وتزداد في المقابل موجة التبعية الثقافية لأسواق الإنتاج الثقافي الخارجية أو للثقافة الاستهلاكية.
وبقدر ما تتسارع وتيرة بناء المؤسسات التعليمية والجامعية والثقافية الأجنبية التي تدرس بلغاتها الخاصة تتحول الحداثة من جديد إلى بنية أجنبية أو غريبة وتحدث شرخا متزايدا بين قطاعات الرأي العام الإسلامي والعلماني.
ويقود الانفتاح الثقافي من دون رؤية ولا هدف ولا مضمون، أي من دون أن يكون مرتبطا بمشروع مجتمعي واضح وواع للتنمية أو للتحديث، إلى تذرر البنية الثقافية وتعميق التشتت الفكري والنفسي والضياع.
وتزداد حركة الهجرة بالقدر نفسه للكفاءات والكوادر الثقافية والعلمية العربية 55 التي تفتقر لأي آفاق في بلدانها الأصلية من هنا لم تحمل العولمة في العالم العربي إعادة التواصل بين الثقافة المحلية والعالمية فحسب عبر النبتة الوليدة للثقافة ولا يمكن لهذه 56 الديمقراطية ولكنها حملت معها التجريد الجماعي من الثقافة التقليدية، وبالتالي فتح أزمة الهوية التاريخية الأزمة أن تجد نهايتها من دون الربط من جديد مع الثقافة الحقيقية، وهو ما يستدعي حتما آي يستقيم إعادة بناء الثقافة العربية نفسها... يتبع
بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية.