
محمود الجاف
من أعجب مفارقات الوجود الإنساني أن ترى شخصا يحمل أعلى الشهادات الأكاديمية، ويتقن لغة البحث والمنهج، ويحسن الاستدلال النظري، لكنه في حياته اليومية يتعثر في أبسط قراراته، وينفعل بطيش، ويُسيء الاختيار، ويعجز عن قيادة نفسه. ذلك لأن الشهادة الأكاديمية لا تعني الكمال الإنساني. فهي في الغالب دليل على التخصص العميق في مجالٍ ضيق، لكنها لا تضمن سلامة المنهج الأخلاقي، ولا صحة المعتقد، ولا نضج النفس، ولا حكمة القرار، ولا صفاء القصد. فقد يكون الإنسان عالمًا في مجالٍ ما، لكنه جاهل بنفسه، أو ضعيفًا أمام شهوة أو هوى، أو متكبرًا بعلمه، أو أسير بيئة أو مصلحة أو ضغط .
وهنا يبرز السؤال الجوهري :
هل الخلل في نقص العلم؟
أم في قصور المعرفة؟
أم في ضعف الوعي؟
أم أن هناك مرتبة أعمق ركّز عليها القرآن ولم ننتبه إليها؟
لقد أكدت النصوص القرآنية أن الإنسان لا يُقاس بما يعرفه، بل بما يُحسن اختياره، ولا بما يحفظه، بل بما يهتدي إليه ويلتزم به. فالعلم قد يُنير العقل، لكن من الذي يهدي السلوك؟
أهي المعرفة؟ أم العلم؟ أم الوعي؟ أم الرشد؟
هذه المفاهيم متدرجة، لكنها ليست متساوية.
أولًا : المعرفة ..إدراك لا يضمن الالتزام.
المعرفة أوسع من العلم؛ فهي القدرة على الفهم والربط والتفسير. غير أن القرآن يقرر بوضوح أن إدراك الحق لا يستلزم اتباعه. قال تعالى في وصف قومٍ عرفوا الصواب ولم يسلكوه :
﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ الأعراف : 146
وهنا دلالة بالغة الخطورة : هم يرون سبيل الرشد، ويدركونه عقليًا، لكنهم لا يختارونه. فالمشكلة ليست في غياب المعرفة، بل في غياب الإرادة الراشدة القادرة على الالتزام بالحق. فقد يعرف الإنسان كثيرًا، ويظل سلوكه بعيدًا عمّا عرف.
ثانيًا: العلم ..ضرورة غير كافية.
العلم هو فهمٌ منظم قائم على منهج، وقيمة عظيمة رفع الله به أقوامًا. لكن القرآن فرّق بوضوح بين العلم والهداية فقد قال تعالى :
﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ الروم : 7 أي علمٌ وظيفيّ سطحيّ، لا ينفذ إلى الجوهر، ولا ينعكس بالضرورة على السلوك أو الأخلاق أو حسن القرار. ولهذا ليس غريبًا أن نجد إنسانًا واسع العلم، لكنه ضعيف في ضبط غضبه، متخبّط في علاقاته، أسيراً لانفعالاته أو شهواته، عاجزاً عن تحمّل تبعات قراراته. فالعلم يُخزَّن في العقل، أما الرشد فيُمارَس في الحياة.
ثالثًا: الوعي .. إدراك الذات دون ضمان النجاة.
الوعي هو أن يعرف الإنسان دوافعه، ومشاعره، وأنماط سلوكه، وأسبابه الداخلية. ويجيب عن سؤال :
لماذا أفعل ما أفعل؟
غير أن الوعي وحده لا يكفي؛ فكم من إنسان واعٍ بضعفه ويستمر فيه، وكم من شخص يعرف خطأه ويكرره. فالوعي مرحلة ضرورية، لكنه إن لم يتحوّل إلى رشد، بقي معرفة مؤلمة بلا خلاص .
رابعًا: الرشد .. المفهوم القرآني الجامع.
الرشد في القرآن ليس مرادفًا للعلم، ولا للمعرفة، ولا حتى للوعي وحده، بل هو اكتمال هذه كلها في سلوكٍ مستقيم، واختيارٍ مسؤول، وقرارٍ منضبط. قال تعالى :
﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ البقرة : 256
أي اتضح طريق الصواب وتميّز عن طريق الضلال وبقي على الإنسان أن يختار.
وقال تعالى على لسان الجن :
﴿يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾ الجن : 2
فالقرآن لا يقدّم معلومات مجردة، بل يهدي إلى الرشد : إلى حسن التصرّف، وضبط النفس، وسداد القرار، وتحمل المسؤولية. ولهذا وردت كلمة الرشد ومشتقاتها في القرآن في نحو تسعة عشر موضعًا، كلها تدور حول الهداية العملية، والنضج، والصلاح، وحسن إدارة شؤون النفس والحياة .
ذلك لان الرشد هو أعلى المراتب :
الرشد = علم + وعي + أخلاق + توفيق إلهي .. ولذلك جعله الله معيارًا حاسمًا .
قال تعالى :
﴿وَآتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ والحكم هنا هو الرشد
﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ النساء : 6
فلم يقل علمًا ولا ذكاءً، بل رشدًا. وحتى في قصة موسى مع الخضر قال:
﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ الكهف : 66
لم يطلب علمًا مجردًا، بل علمًا موصلًا للرشد. لان الرشد نعمة لا تُنال بالجامعات وحدها، بل بتواضع القلب، وصدق النية، ومحاسبة النفس، والخوف من الله، والعمل بالعلم . ولهذا قال بعض السلف :
كم من عالمٍ أفسده علمه، وكم من جاهلٍ أصلحه صدقه. وهيروشيما وناكازاكي خير مثال.
ولعلّ سبب فشل بعض المتعلمين في قيادة أنفسهم أنهم تعلّموا كيف يفكرون، ولم يتعلّموا كيف يضبطون أهواءهم؛ نمّوا عقولهم، وأهملوا نضجهم الانفعالي. وفي علم النفس يُسمّى هذا: عدم النضج العاطفي، حيث يجتمع ذكاء معرفي مرتفع مع ضعف في الرشد وضبط النفس، فينتج إنسان يعرف .. لكنه لا يُحسن الاختيار.
العلم يجيب : ماذا أعرف؟
المعرفة تجيب : كيف أفهم؟
الوعي يجيب : لماذا أتصرف؟
أما الرشد فيجيب : ما الصواب الذي ألتزم به ولو خالف هواي؟
ولهذا لم يجعل الله التكليف مرتبطًا بالعلم وحده، بل بالرشد، والعقل، والقدرة على الاختيار . لان أخطر ما قد يصيب الإنسان أن يمتلك عقلًا متعلمًا بلا رشد، وقلبًا نابضًا بلا وعي، وحياةً مليئة بالقرارات الخاطئة رغم وفرة المعرفة. وأعظم ما يُمنح ليس شهادة تُعلّق على الجدار، بل رشدًا يقوده في الخفاء، ويهديه حين تختلط الطرق، ويمنعه من أن يؤذي نفسه أو غيره باسم العلم أو العاطفة . والسلام على من طلب الرشد، ليس ليعرف الحق فقط، بل ليسير عليه .
وقد قال الفلاسفة قديمًا :
ليس الجهل هو أخطر أمراض الإنسان، بل توهّم الحكمة.













