لسنا من الهواة او من المتابعين والمواظبين الجيدين للأفلام والمسلسلات التلفزيونية او البرامج الترفيهية، الا انه وجدنا ضجة وتعليقات كثيرة عن مسلسل عرض على قناة ( MBC العراق) بعنوان (ستيلتو)، وما زال يعرض على قنوات اشتراك خاصة، بحيث تحول الى تريند، تجاوز شبكات التواصل الاجتماعية، ليصل تداوله أوساط اجتماعية عديدة، لذلك اضطررنا مشاهدة عدد من حلقات المسلسل، ونفهم لماذا كل هذه الصخب حول المسلسل المذكور.
في كل صغيرة وكبيرة من الاحداث، وفي كل ظاهرة سياسية واجتماعية، وفي كل عمل ثقافي وفكري على صعيد الكتابة والسينما والمسرح والتلفزيون، وفي كل قرار يصدر من السلطة السياسية أو قانون تشرعها الهيئات التمثيلية أو النيابية، بسهولة يمكن شم ولمس، او الشعور قليلا للحاجة إلى التوقف والتمعن، لمعرفة بأن هناك مصالح طبقية تقف خلفها.
وبعكس ما تتفوه بها الأقلام البرجوازية من نكران للعديد من الظواهر والقرارات والقوانين الصادرة، بانها اما فوق طبقية، او تشمل مصالح كل الفئات الاجتماعية في المجتمع، فإن السينما والمسرح والفن والادب، كما هو الحال بالنسبة للدين والأخلاق والايديولوجية هو جزء من البنية الفوقية، والتي ماهي إلا تعبير عن مصالح الطبقة الحاكمة، وتعتبر كل المنظومة الأخلاقية والاجتماعية والثقافية في المجتمع انعكاس لها.
إن ذكر هذه المقدمة البسيطة، هي من اجل توضيح المنهجية التي تساعدنا لتحليل الماهية الاجتماعية لمسلسل (ستيلتو) حيث تحول الى ظاهرة مثلما ذكرنا، اثارت العديد من المناقشات بشكل واسع في شبكات التواصل الاجتماعي، وفي أوساط اجتماعية مختلفة، وأصبح محل شد وجذب حول احداث المسلسل، وتفسير وتحليل أحداث المسلسل من زاوية الصراع بين الخير والشر، والواضح حتى هذا الصراع الذي هو سردية تاريخية، ابطاله النساء الأربعة بخيرهن وشرهن، وهن من يتحكمن في مفاتيح حياة جميع من يعيشون معهن.
ان حجم الانفاق الهائل على هذا العمل الدرامي، على صعيد أماكن التصوير في تركيا والمكياج والملابس وغيرها، إضافة إلى الاستعانة بشركة تركية وكوادرها المحترفة، اعطى زخما كبيرا لجذب أكبر عدد من المشاهدين، ولعب حجم الإنفاق المذكور واحترافية القائمين على العمل، دورا كبيرا في تسويق المشاهد الاجتماعية التي يسردها العمل الدرامي داخل أوساط واسعة، وتمرير جملة من الأفكار والتصورات تساعد على إعادة انتاج السردية الدينية التاريخية عن المرأة، وتقوية وترسيخ وتثبيت الصورة النمطية للمرأة في المجتمع، والتي أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها رجعية.
تلك السردية قالت، إن من أخرج آدم من الجنة هي حواء، وإن اول صراع دموي في التاريخ سببه المرأة، حيث كان بين قابيل وهابيل، واقدام الأول على قتل اخيه من اجل الفوز بامرأة، وأن المرأة هي سبب كل الشرور في الحياة، وإذا ما ارادت هذه الصورة النمطية ان تكون أكثر ليبرالية، سنسمع ان المرأة لا تريد التغيير والحرية، وأن المرأة هي ضد المرأة. الخ من الترهات التي تنهال علينا ليل نهار من التعليقات والمقالات في شبكات التواصل الاجتماعية والحوارات في الفضائيات.
جاء مسلسل (ستيلتو) في هذا الوقت كي يكون عونا ودعما لكل تلك التصورات المعادية للمرأة، التي تُعتبر محاولة من اجل تقديس دونية المرأة وترسيخ التصور الذي يقول بأن هذه هي الصورة النمطية للمرأة، فهي لن تتغير، ولا تستحق المساواة الكاملة، وان جل عملها هي حياكة المؤامرات والدسائس، كما كان في مسلسل (حريم السلطان) الذي عرض قبل سنوات، ولكن الفارق مع الأخير هو ان مؤامرات النساء ودسائسهن في ( حريم السلطان ) كان من اجل السلطة او الفوز بها، أما بالنسبة للأول (ستيلتو) فهو بسبب وجود مشاكل نفسية وعقد متأصلة في وجود المرأة، التي تعنى بالتحليل الأخير، إثبات سطحيتها، التي لا تملك أي شيء في الحياة سوى الغيرة والحسد والضغينة لملئ فراغها والفوز بنشوة تحقيق الذات الخاوية، وان كل ما تقوم بها هو جزء من حقيقة المرأة ورسالة وجودها.
يعرض هذا المسلسل (ستيلتو) في هذا الوقت، أي في زمن وصل الظلم الجنسي على النساء الى درجات يندى لها الجبين، وشخصيا وفي مناسبات عديدة رسمية وغير رسمية، قلت واقول هنا، حقا اخجل من نفسي لتصنيفي من جنس الرجل، لما وصلت إليه أوضاع النساء، فالذكورية والرجولية المقيتة التي هي انعكاس مباشر لثقافة السلطة الحاكمة، وتكرس بشكل قوانين ومنظومة سياسية واجتماعية واخلاقية معادية للمرأة، هي التي تسود في المجتمع او في الشارع بأدق العبارة.
ان تكريس الظلم على المرأة هي سياسة منهجية ومدروسة، فالتحرش الجنسي على النساء على سبيل المثال، ليس وليد صدفة، ولا نابع من كون المرأة تعرض مفاتنها كما يدعي فطاحل الرجعية والعفونة في المجتمع، فكم من مئات النساء المحجبات تعرضن الى التحرش الجنسي، وأيضا ليس كما يقولون بأن المرأة هي مسؤولة عن التحرش، وليس المنظومة السياسية الحاكمة. ان تحول ظاهرة التحرش الجنسي الى ظاهرة اجتماعية واسعة، مصدره الإسلام السياسي بالدرجة الاولى، حيث بدأت هذه الظاهرة تتسع وتأخذ مدياتها خلال الثورتين المصرية والتونسية، عندما كانت النساء يتصدرن بأعدادهن الغفيرة او بعلو اصواتهن او بإبداء رأيهن، ومشاركتهن في تلك الثورتين.
وكما اشرنا في اكثر من مناسبة ان استعباد المرأة ودفعها الى خلف المجتمع جزء من هوية وجود الإسلام السياسي، وعندما فشلت التعبئة الايديلوجية والتحريض الاجتماعي في احتواء المرأة واعتقالها في دائرة البيت والطبخ وتربية الأطفال لفرض البلاهة عليهن، لجأ الإسلام السياسي الى سلوك التحرش الجنسي كوسيلة وسياسة لإعادة نصف المشاركين في الثورة الى البيوت وعزل الجماهير والانفراد بضربها وتفتيت صفوفها، وهكذا بدأت تمارس تنظيمات الإسلام السياسي وهنا اقصد (الاخوان المسلمين) هذه السياسة، سياسة التحرش الجنسي ضد النساء، لتتحول تلك السياسة وبشكل مدروس الى عقلية وممارسة اجتماعية سائدة في المجتمع، وإيجاد المبررات التافهة التي أشرنا اليها لإثبات حقانية التحرش، وإنقاذ المتحرش من أي نقد وبالتالي انقاذ تصرفه من المحاسبة القانونية، وهكذا تحول التحرش الى سلوك يكاد يكون عاديا في الشوارع وأماكن العمل والتسوق.
اما على الصعيد القانوني، وهنا سأتحدث عن العراق، فهناك اجحاف واسع بحق النساء على صعيد الامومة، حيث تم تشريع قانون ٥٧، الذي مفاده انتزاع الأطفال من النساء إذا ما حدث تفريق بين الابوين، وشيوع ظاهرة الزواج القسري وخاصة للقاصرات، و قانون تعدد الزوجات، وعلى الصعيد الاقتصادي، فالبطالة تضرب بشكل سرطاني صفوف النساء، حيث تشكل ٨٧٪ نسبة البطالة في صفوفها، كما لعب وباء كورونا دورا كبيرا في تشديد القهر الاقتصادي عليها، اما على الصعيد الاجتماعي، فانعكاس الوضع الاقتصادي والقانوني على وضع النساء اجتماعيا يكاد يكون كارثيا، فارتفاع نسبة الانتحار في صفوف النساء وزيادة حالات قتل الشرف، ومحدودية خروج النساء من البيوت على الأقل لشم هواء نقي أو التنفيس عن اوضاعهن من خلال التمشي في المتنزهات والشوارع والخروج ليلا، وتحول معظم النساء اما الى معتقلات في البيوت مع اطلاق سراح مشروط ومحدود او الى عبيد في المطابخ وتربية الأطفال، وبسبب أشكال الظلم المذكورة نجد أن انخراط النساء في العمل السياسي محدودا لا يتجاوز أطر منظمات المجتمع المدني.
في ظل هذه الأوضاع، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقانونية للأغلبية الساحقة للنساء في المنطقة، يصور مسلسل (ستيلتو) النساء المترفات، واللواتي يعيشن بشكل طفيلي، و يقمن باقتناء اغلى الحلي والملابس و السكن في قصور فارهة ولديهنّ عاملات ومربيات، و يُقِمن الحفلات الباذخة، في الوقت الذي لا تجد غالبية النساء في منطقتنا فرصة عمل لتأمين الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة، ويقضون ساعات وايام وشهور في ضياع اعمارهم بين جدران المطبخ والبيوت لإعداد الطعام او لتربية الأطفال، واذا كانت تلك المرأة عاملة أو موظفة، فيترتب عليها عمل إضافي يساوي عدد ساعات العمل خارج المنزل، وفي كلا الحالتين سواءً أكانت عاطلة عن العمل في البيت او كانت تعمل، تتعرض اعداد ليست قليلة منهن الى العنف المنزلي من قبل الاب او الزوج او الأخ او الابن، وهنا يُطرح سؤال هل لدى هؤلاء النساء متسع من الوقت كي تفكر بحياكة مؤامرة او دسيسة ضد زميلتها؟!
وليس هذا فحسب، بل يصور المسلسل دور بقية النساء المشاركات الثانويات، اما يمارسن النفاق الاجتماعي او النميمة او يلعبن أدوار لتعميم أجواء المؤامرات والدسائس كي تتحول الى محيط اجتماعي يسبح الجميع فيه، في حين يقتصر دور الرجال الثلاثة الذين هم أزواج لثلاثة من النساء، هم خارج الزمن ولا يشكلون أي معادلة في الحياة الاجتماعية، بل انهم أدوات التظاهر الاجتماعي لزوجاتهم، او وسيلة شكلية تضاف الى زينة النساء، أما ما يحدث من مظالم ضد النساء في المجتمع، فهؤلاء الرجال هم بعيدون عنه وابرياء وانقياء باستثناء أحدهم الذي (تورط) بعلاقة خارج المؤسسة الرسمية للزواج، وحصر شر النظام الرجولي والذكوري الذي هو جزء من منظومة سياسية واجتماعية تنتجها بوعي وتخطيط السلطة السياسية الحاكمة (بالخيانة الزوجية) وليس أكثر من ذلك.
أن تفاهة وسطحية وسلوك النساء في المسلسل -هناك نسختان باللغة التركية والامريكية ايضا- ، هو تفاهة وسطحية الطبقة التي تنتمي لها تلك النسوة، وهي تعكس ضحالتها وطفيليتها، وهي الطبقة البرجوازية.
ان نساء (ستيلتو) لا يمثلن لا من قريب ولا من بعيد، لا من حيث وسيلة الكسب للعيش، لا من حيث الثقافة ولا العقلية ولا الطموح والأماني، نقول لا يمثلن الملايين من النساء اللواتي يكافحن في افغانستان وإيران والعراق وكل المنطقة والعالم من اجل لقمة العيش، من اجل الكرامة والمساواة الإنسانية، من أجل التحرر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وتمزيق صفحات كل أشكال الظلم الجنسي، وكسر قيود العبودية، وهدم النظام الذكوري والرجولي الذي هو جزء من السلطة السياسية الحاكمة.
سمير عادل