فائزة الفدعم
في صباح يوم جميل مشرق وعندما كنا نركب السيارة في طريق العودة الى مدينة بعقوبة من منطقة الشورجة المزدحمة في بغداد ، فجأة طلبت والدتي منا التوقف وبدأت بالنظر الى بناية جميلة وكانت تبتسم والحزن بادياً على مُحيّاها وكأنها تستعيد في ذهنها مشهداً ما ، نظرنا اليها والكل مستغرب لذلك فقالت : سوف اقص عليكم قريبا حكاية من ذكريات الماضي ، وفي اليوم التالي عندما كنا نشرب الشاي في ساعة العصر قالت : ان تلك العمارة كان من الممكن ان تكون يوما من املاكنا ولها قصة . وهذه الاحداث سارويها لكم اخوتي واصدقائي الان مع بعض التفاصيل .
كنت في مقتبل العمر . أسعدني يوماً سماع اصوات زغاريد وافرحني المنظر واستبشرت به خيرا فنظرت من خلف الباب لأرى امرأة واقفة في نهاية الحارة وبيدها كيس من الورق الأسمر وهي تنادي (طشار ويهليه عرب ويهليه راية ابو فاضل بيضة ومبنية ) وهي تنثر الحلويات المكونة من اصابع العروس وكفشة العروس وملبًس وچكليت ابو الحليب وكعب الغزال وسط الشارع . كان الاطفال الصغار يتراكضون ويتسابقون لجمعها من الارض والشاطر من الاولاد هوالذي يحصل على اكبر عدد من قطع الحلوى ، فيقوم بعدها ويتباهى بها ايهم نصيبه اكثر الا ولد واحد اسمه عبوسي بيده قطعتان من السميط اعطته اياها له جدته من بغداد كهدية ( صوغة ) ادخل قطعة واحدة مدورة في معصمه والاخرى يتلذذ بأكلها وكأنها وجبة كافيار غالية الثمن!
ولم يأبه للحلويات مُطلقا وجمعها .
كنت اتمتع بمشاهدة هذا المنظر وكان والدي لحظتها يهم بركوب العربة للذهاب الى كراج سيارات بغداد الكائن عند محطة القطار لشراء عقار في العاصمة وعند وصوله تفاجأ بفقدان المبلغ وعاد بخفي حنين وقال بالحرف الواحد انها (فلوس حلال) وهو حائر ومتأثر جداً ويحاول ان يتذكر كيف فقد المبلغ !
والى هذا الحد في القصة يكمل تفاصيلها بعد هذا العمر الطويل السيد احمد ابو رافد الخشالي اخو الشيخ هاشم الخشالي المسكي (الشهيد السعيد بأذن الله )
في بداية عام 1975 تم استدعائي الى الخدمة العسكرية (الاحتياط) وتم تنسيبي الى معسكر سعد . سرية حراسة بعقوبة . مستودع التجهيزات . وكان من ضمن كادر االسرية من الذين تعرفت عليهم جندي مكلف شاب في العشرينات من العمر يدعى جاسم وهو من سكنة ناحية بني سعد . كان وسيماً . اشقر . رشيق القوام . هاديء يتميز عن بقية اقرانه بدماثة خلقه وسمو روحه وهو من أسرةٍ فقيرة ومعدمة . توفى والده الذي كان كاسبا ومسؤولا عن العائلة المكونة من زوجته وولده الكبير جاسم وعدد من الابناء القاصرين وكانوا يسكنون دارا مؤجرة وعند دعوة جاسم للخدمة العسكرية الإجبارية اصبح عاجزا عن تسديد بدل الإيجار مما دعى مالكها الى اخراجهم منها ومن ثم سكنوا في خيمة بسيطة مثل العوائل العراقية النازحة في هذه الايام . كانت تحوي ادوات بسيطة جدا لطهي الطعام بالاضافة الى بعض القطع القديمة والبالية من الفراش الذي لم يكن يكفيهم ويغطي احتياجاتهم الا من النزر اليسير . ولكن كان بعض الناس يعينوهم على مصاعب الحياة بما جادت به نفوسهم الكريمة من مأكل ومشرب الا ان جاسم كان يستغل ماتبقى من يومه عند العصر . بل حتى في العطل الرسمية ومنها الجمعة للقيام ببعض الاعمال البسيطة التي تدر عليه رزقا محدودا وقد كان مقتنعا تماما بما يحصل ومتعففا لايمد يده لأحد ابتغاءا للمساعدة كما انه لم يشكو يوما من حالته لأحد وكانت حتى ملابسه العسكرية بحاجة للإدامة لانه لايملك غيرها ولم يعتاد التسوق من حانوت السرية او تناول الطعام والمشروبات الغازية التي تباع فيه اسوة ببقية الجنود ولم يستطيع تحقيق هذه الرغبات وكان يكتفي بالارزاق التي توزع من وحدتنا العسكرية المتمثلة بالصمون وبعض الفواكه احيانا ..
وذات يوم وعند بدأ الدوام الرسمي وذهاب الجميع الى ساحة العرضات لم يحضر جاسم وتم إعتباره غائبا وبعد ساعتين علمنا إنه كان في طريقه الى المعسكر كالمعتاد . لكن عند وصوله الى بعقوبة ونزوله من السيارة عثر على كيس فيه مبلغا كبيرا من المال وما كان منه الا ان يتجه الى مركز مديرية الشرطة ويقوم بتسليمه الى الضابط وقبل ان ينصرف مغادرا حضر المدعو الحاج محمد علي فدعم والذي كان يرتدي زيه المميز (الطربوش والعباءة ) مرتبكا والعرق يتصبب من جبينه وقد طلب تسجيل واقعة فقدانه مبلغ من المال وقدره ( 36 ) الف دينار . كان في وضع لايحسد عليه من الحزن الا ان الضابط استعجله بالقول تفضل ايها الحاج واسترح وابشر ان هذا الشاب الأمين والغيور قد وجد ضالتك التي تبحث عنها وسلمها الينا قبل قليل واشار الى جاسم وهنا تنفس الحاج الصعداء وتوجه بوجهه الى السماء وسالت دموعه وهو يقول ويكرر الحمد لله والشكر . وبعد ان تناول قدحا من الماء ابتسم الضابط بوجهه قائلا له الان لك الخيار ياعمنا الكريم في مقدار الهدية التي يمكن اعطائها لهذا الشاب الفقير والأمين فبادر جاسم قائلا : شكرا لك ياسيدي وشكرا للعم فانا لا احتاج اي مبلغ وان ماعملته هو ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى فقط فحاشى لي ان اطمع باي مكافأة ، وكرر الشاب مؤكدا رفضه وغادر غرفة الضابط مودعا جميع من فيها الا انه أمسك بيده واقتاده الى غرفة المدير واثناء مثولهما امامه شرح له الضابط هذه الحالة فأمر مدير الشرطة بمرافقته الى وحدته وتوجيه الشكر والتقدير له إلغاء غيابه ومساعدته بمنحه اجازة لمدة عشرة ايام مكافأة له على هذه الامانة .
ولحظة وصوله الى الوحدة العسكرية كنت انا وبعض اصدقائي نقف بالقرب من مكتب امر السرية واذا بسيارتين مسلحة يترجل منها ضابط برتبة نقيب وبعض افراد الحماية ومعهم جاسم . صدمت لهذا المشهد وانا غير مطمئن وخفت ان يكون قد ارتكب فعلا جرميا يستحق عليه هذه المرافقة الا اني وبعد ان التقت عيني بعينيه تبسم قائلا ابشر يا اخي ابو شهاب . لايوجد شيء مهين وما جعلني اطمئن اكثر انه لم يكن موثوق اليدين وان جميع من كانوا معه تعلو الابتسامة والانشراح على جوههم الى ان دخلوا غرفة الآمر المقدم فائق معصوم الشهنازي الذي نهض من خلف مكتبه وقام بتقبيل جاسم بعد سماعه للشرح المفصل وامر بمنحه اجازة عشرة ايام وتجهيزه بعدد من البطانيات واي حاجات اخرى ممكن الاستفادة منها واوعز بايصاله بالعجلات العسكرية في وحدتنا مع الهدايا الى اهله . وحتى إكمالي خدمة الاحتياط في ذلك العام كان جاسم مصدر اعتزاز وفخر ويشار اليه بالبنان ويحضى من الآمر والضباط والمراتب بكل الإحترام والتقدير اللائق به رحمه الله تعالى حيا أو ميتا . والى هنا تنتهي رواية الاخ أحمد ابو رافد الخشالي مشكوراً .
في الحياة تحكمنا الأقدار التي نسميها القسمة والنصيب ، وكانت قسمتنا هذه المرة بدلاً عن العمارة الموعودة ( جاسم ) النموذج الحي للأمانة والخوف من المال الحرام . والذي يعادل الآف الممتلكات .