احمر شفايف

أربعاء, 03/08/2023 - 22:47

 

 

 

فائزه الفدعم 

في الزمن الجميل كان الناس كالبنيان المرصوص يشد بعضه ازر بعض وعند انتقالنا من منزلنا القديم مقابل جامع الشابندر الى شارع سينما ديالى كان دارنا يقع وسط بعض الاملاك الخاصة بالوالد والتي جرى عليها قرار الازالة لاحقا ، توطدت العلاقة بين الجيران وكأننا نعرفهم منذ سنين وعمت الألفة بيننا ، ومضت الأيام وابتدأت المهام المنزلية في حينها ومنها ان الأهل كانوا يحضرون ادوات عمل الطرشي من بساتيگ (جمع بستوگة) وجمعها في السرداب الواقع في المجاز الذي يؤدي اوله الى الشارع وآخره الى الدار وعند تحضير المواد وعمل الطرشي كنا نضع ليفة من اشجار النخيل على فوهة البستوكة وقراءة الفاتحة للشيخ الخلاني الذي ارتبط اسمه انذاك بعملية تخليل الخل وهذه كانت عقائد اهل بعقوبة ليكتمل صنعه ثم الطرشي على اتم وجه ودون ان يفسد ، ويومها ونحن نغلق باب السرداب سمعنا صرخة من الجهة المقابلة واستفسرنا عن الخبر فتبين ان السيد الحريري قد وافته يد المنون وتوفي رحمه الله ، وكان داره يقع بين دار الشيخ فهمي ومنزل السيد حسين ابو قاسم الآشجي وعند هدمه وازالته بني مكانه فندق عامر لصاحبه زيدان الحيدر .

والسيد الحريري كان والد السيدة حسيبة زوجة خليل العرس والست اديبة زوجة الاستاذ خليل النصار والحاجة محفوظة التي تزوجت شيخ من خارج بعقوبة وتم حينها اجراء اللازم واخذ واجب التعازي وكنت طفلة ارافق والدتي وكان دارهم فيه طبگة كانت مجاورة لباحة الدار وفيها درج يؤدي الى الغرفة التي تسمى ( الطبگة ) مصنوعة من الآجر والخشب وفيها شباك يسمى (رازونه) وفي غفلة من الجميع لفت انتباهي قلم اصبع يسمى احمر الشفايف لم ار في دارنا مثله واعجبني جدا لان صديقاتي لدى امهاتهم واحد مثله فاخذته ووضعته في جيبي وتركت والدتي مع باقي النساء ودخلت دارنا وحزنت جدا لاني استوليت عليه وفرحت بذات الوقت لاننا لم نمتلك مثله وعبرت الممر الذي كنا نسميه المجاز والذي يؤدي الى الحديقة والى حضيرة الحيوانات وخبأت ضالتي كي لا يراها احد قرب المعلف وهو عبارة عن حوض كبير يوضع فيه التبن الخاص بالابقار .

وبين مصدقة ومكذبة كنت اذهب كل يوم لاختلس نظرة على قلم احمر الشفاه لأطمئن عليه واعود مسرعة الى البيت ، حينها جلب انتباه الوالدة انني كل يوم اذهب الى الحديقة واعود فقالت لماذا تذهبين يوميا الى الحديقة ؟  فقلت لها لأجمع بيض الدجاج فحذرتني من عدم الذهاب هناك كي لا تلدغني ( دبيبة ) وهي قد تكون ( حشرة مؤذية أو حية أو عقرب ) وفي ذلك الزمان كان الجيران يذهبون جماعات أو فرادى الى بغداد يقصدون اماكن او اضرحة وكان اكثر اهل بعقوبة قليلين المعرفة بها فيذهبون الى مدينة كربلاء او النجف او السيد الرفاعي وزين العابدين او الامام العيدروسي او الشيخ معروف او الشيخ الخلاني او الشيخ عبد القادر الكيلاني او الامام موسى بن جعفر وكنا نذهب لزيارة الجنيد البغدادي وخالة سيدنا السري السقطي او يوشع بن نون وبهلول الكوفي او ابراهيم الخواص وكانت الزيارات مستمرة للترفيه او طلب الأجر ، وكان هناك حديث بين الاهل الى اين سنذهب هذه الايام مع الجيران ؟

وكانت والدتي يومها متوعكة وتعاني من قرحة في المعدة والاثنى عشري وبدوري كنت دائما اذهب معها ومع والدي الى بغداد لمراجعة الدكتور عزيز محمود شكري او دكتورة نسائية اسمها ( زليخة أسد ) فقررت والدتي ان تطلب الدعاء بالشفاء في الحج حين تكون الزيارة الى بيت الله الحرام وتبسم الوالد وقال لم تطلبي سوى حقك . اتفقت والدتي مع صديقاتها وكنّ كل من : الحاجة نجيبة الداغستاني يسمونهم (بيت الچچان ) والسيدة المصونة الملة فخرية زوجة والد الشيخ (اسامة العاني ) والسيدة زوجة خليل العمر ووالدة معلمتي الست خالصة والست پاكزة والست سميرة والست شيماء وبعد اكمال الاجراءات جاء يوم السفر في سيارة طويلة تسمى (النيرن ) وقام الاهل بعمل المتاع من الاشياء التي لاتتلف كالخبز عروك والسمسم والكليجة ولا ازال اتذكر لحد الان قدر من الشوربة الحمراء وضعته الوالدة في ( علاكه من الخوص ) مع ادويتها لانها كانت مريضة فوضعتها بينها وبين صديقتها في السيارة ، فذهبوا بامان الله ورعايته والجيران والاهل يدعون لهم بين باكي وفرحان ويطلبون منهم الدعاء في بيت الله الحرام وانقطعت الاخبار لفترة ليست بالقليلة واشتد القلق وعلى حين غرة سمعنا اصوات الهلاهل والاطفال يرددون باعلى اصواتهم (جوي الحجاج جوي الحجاج ) وبيد كل منهم ( صفيحة وعصا يطبلون بها فرحين ) ووقفت السيارة في بداية الشارع واجتمع المحبين بأكياس الجكليت ( الويهلية ) والتي يلقون بحباتها فوق رؤوسهم وعلى السيارة ، ونزلت والدتي فذهب الوالد بالذبيحة ترحيبا بقدومهم وكانت اسعد الايام وكانت الوالدة تشعر بالفرح وتحسنت صحتها والكل ملتف حولها وبعد الاستراحة بدأت تقص علينا رحلتها من اول ذهابها حتى رجوعها والكل مبهور بكلامها وكانت الحكايات تتكرر لكل ضيف ولاتنتهي خلال الليل والنهار ولمدة ايام وبعد توزيع الهدايا واخذ فترة من الراحة لقلة اعداد الضيوف كانت الوالدة تخرج بعض الاحيان لشراء الهدايا من السوق لمن لم يأتي بعد من الزائرين المُتوقعين ولنفاذ كل ما جلبته معها من هدايا ( صوغات )  وكان اكثرها من الكحل والبخور والعطور وقطع الذهب الصغيرة لاهل البيت .. اخبرتنا الوالدة ان الذهب يباع على ابواب الكعبة على شكل اكوام صغيرة ونصيبي منها كان تراجي (حلق ) على شكل نسر بعين زرقاء وكان لمعلماتي نصيب من الهدايا ، وفي احدى الليالي نامت والدتي مبكرا ونام الجميع الا انا بقيت ساهرة لوحدي فذهبت خلسة الى الحديقة وبيدي الفانوس وكنت اشعر بالفرح بأمي وكيفية مجازاتها فجلبت احمر الشفاه ولونت شفتيها بطريقة متقنة وكان في ذلك الزمان احمر الشفايف ذو لون ثابت وكانت هذه طريقتي للاحتفال بها وعند الصباح بعد صلاة الفجر وغسل وجهها كانت لون شفتيها احمر ظاهر للعيان ولم تنتبه لان الدنيا فيها بعض الظلام وكان نادرا ماترى المرأة وجهها صباحا عكس الرجال الذي يقومون بحلق لحاهم والنظر الى وجوههم فخرجت والدتي مع شروق الشمس وكل من رآها وسلم عليها اصيب بالدهشة وهي لاتعرف لماذا هذا التركيز من الجميع واخيرا اخبرتها احدى الجارات وقالت لها هل احمر الشفايف هو سُنة بعد الحج ؟ 

 

 

 

لاننا لم نراك ابدا بهذا المنظر . استغربت الوالدة ووضعت المنديل على فمها وعادت مسرعة الى البيت وكانت الكارثة عندما نظرت الى وجهها في المرأة فصعقت فالتفتت لتراني ..

 

وكان يوما على الكافرين عسيرا  .

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطرائف