متغيرات إقليمية وعالمية تدق الأبواب .. برسم مصالحات الضرورة .. بالعودة العربية لسورية والمصالحة معها ومع إيران .. ما يتيح ولادة نظام عالمي جديد وصعود الشرق .. أو تورط غربي غبي في حرب عالمية محسومة تأتي عليه
محمد شريف الجيوسي
هل المنطقة العربية ومحيطها مقبلة على تغيرات شاملة ؟
نعم ثمة 4 مؤشرات تدلل على ذلك ، أبدأ بأولها وأبسطها ، ما أعلنه الرئيس التونسي قيس سعيّد ، بشجاعته المعهودة المحسوبة ـ رغم ركام التخريب الإخواني من التضليل ومحاولات إسقاط برامجه المعنيّة بتحرير تونس من عنتهم وتزويرهم وأخونتهم ـ إذ أعلن أن تونس ستصوب التاريخ وستعيد العلاقات الديبلوماسية مع سوريا .
ولا بد أن خطوة إبن سعيّد ؛ المهمة هذه ، تأتي في سياق مسيرة ألف ميل دشنها مغاربياً قبله ؛ الرئيس الجزائري الشجاع ؛ إبن تبون ، وستليها خطوات مغاربية تباعا وفي وادي النيل والقرن الإفريقي فالمشرق ، ووجد البعض في الزلزال مُدخلاً للنزول عن شجرة العِناد ، والتحلل من فشل رهاناتهم الخائبة على إسقاط سورية ، فقد بات هذا الإصرار المقيت عبئاً عليهم ، أكثر منه عبئاً علي سوريا.
كانت سماء السياسة قبل 12 سنة وبضعة أيام؛ ملبّدة بأضاليل أعدها مسبقا خبراء مختصون بمسح أدمغة الشعوب والعوام ، بهدف تحويل الدول من مُمْسكةٍ بسيادتها إلى محبَطة وفاشلة ومراعٍ للفتن ـ ما وسعهم الجهد ـ مُشبعة بالكراهية وتعظيم الأخطاء والثغرات ، من قبل دوائر دولية وإقليمية متناغمة ، ومشغّلة جهاليين إدّعوا الجهاد لـ ( تحرير ) سوريا وليبيا واليمن ومصر وتونس والجزائر والعراق ولبنان (على فترات)، وبلغ حدّ الإتقان لديهم ،أن خُيّل للبعض أنها حقائق وليست مجرد "عصيّ من سحرهم تسعى" .
وجرّدوا وجنّدوا لذلك كلّ ما يلزم ، من إعلام يشبّه الأكاذيب حتى لتبدو حقائق ماثلة لدى البعض،ورصدوا تريليونات الدولارات والعملات لتمويل الخراب وتعميقه وتكريسه ، ودرّبوا وسلّحوا ومرّروا مئات الآف الضلاليّين والمضَلّلين وعميان البصيرة، وشقّوا ترعاً جدباء نقيضة للمحبة والمواطنة والوعي ، مترعة بالفتن والكراهية والشقوق والشّقاق، بحيث لا تقوم لهذه الأمة قائمة ـ إن إستطاعوا .
وخلّقوا وصنّعوا للأمة أعداء هم ليسوا كذلك أعداء وجوديين أو دينيين أومذهبيين أو قوميين ، فصار الصهيوني رفيقا ، والمسلم الشيعي أو الفارسي عدواً ، والعربي المسيحي أو إبن هذا الوطن من الحلال استباحة عرضه وماله ومسكنه وأمنه .. لتنعم إسرائيل بمزيد من الإستقرار والأمن والتوسع الجغرافي والثقافي والإقتصادي ، سواء في فلسطين أو في المنطقة ، وهو ما يتم الآن .
لكن ما لم يكن بالحسبان ـ أن إنشغال الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية الكبرى؛ بخاصة بريطانيا وفرنسا وألمانيا ، ومعهم بالطبع الكيان الصهيوني ، وقوى إقليمية تابعة ، في إنشاب أنياب ( ربيعهم ) بالمنطقة العربية وبعض الجوار ـ أتاح ( إلى جانب عوامل أخرى ) صعود قوى كبرى كالصين وروسيا والهند وجنوب إفريقيا والبرازيل ، وإن يكن بنسب متفاوتة، وفي مجالات مختلفة .
وهكذا أصبح الإتحاد الروسي والصين الشعبية ، قوتين عظميين صاعدتين ـ فيما أمست القوى المتورطة بإنتهاك المنطقة العربية ومحيطها، وفي توريط قوى محلية وإقليمية ، في حالة هبوط ، فلم تعد واشنطن الدولة الأعظم ، وأصبحت وحدانية القطبية محل ريب وصَغار، بل وليس بإتجاه ثنائية القطبية وإنما نحو تعدديتها، وقد تصبح امريكا خارج منظومة نظامٍ عالميٍ جديد ، بوجودها خارجه ستكون أكثر عدلاً وأمنا وإستقرارا واستغلالا للثروات الوطنية والمياه والطاقة من قبل أصحابها وأرسخ قيمياً .
وهكذا بتنا نشهد بداية التحول الثاني ، حيث أخذت أطراف محسوبة تاريخياً ( وما تزال ) على الولايات المتحدة والغرب ، تعيد النظر في خياراتها ، كنتاج طبيعي لتمكن الصين وروسيا ؛ من تحجيم الغطرسة الأمريكية والغربية ( أما تكشّف دور إسرائيل في أوكرنيا وتحدّيها لوجود ودور روسيا الإقليمي وأسلحتها ، فحسابها تحصيل حاصل بالنتيجة وفي وقت ليس بعيد) ولأسباب لم يحن بعد إعلانها من جانب موسكو ؛ فإنها تتصرف بتؤدة كبيرة، لكنه ( سيكون حسماً كافيا في حينه ) .
وعليه لم تعد تلك الأطراف بحاجة لإسرائيل كما السابق، لتحسين صورهم لدى واشنطن ولحمايتهم من أعداء وهميين ، لأن الحاجة لأمريكا ذاتها وللغرب لم تعد ذات بال كما السابق ؛ بنتيجة صعود الصين وروسيا، وخاصة أنه ليس لدى هاتين الدولتين سوابق إستعمارية في المنطقة، ولا إشتراطات مسبقة مع أي دولة سوى التعامل وفق مصالح مشتركة ندية وبإحترام متبادل، ما أتاح صعودهما سريعاً .
فالخليج بقيادة السعودية ـ إلى حدٍ بعيد ـ لم يعد يستجب للمطالبات الأمريكية فيما يتعلق بزيادة إنتاجه من الطاقة ، لسد النقص الحاصل من الواردات ، جراء قرار الإتحاد الأوروبي وبريطانيا وقف الإستيراد من روسيا بضغط أمريكي ، وهو ما لم يحصل قبلاً ، فيما كانت الرياض تدفع لأمريكا ( خاوة ) لحمايتها من المجهول ..كما حدث مع الرئيس الأمريكي السابق ترامب ، حيث تولد ميزان قوى جديد ، بصعود بكين وموسكو وسط ترحيب عالمي ملحوظ ، الأمر الذي يحمي السعودية ودول مثيلة من الغطرسة والإبتزازات الأمريكية الغربية والإسرائيلية .
وتمثل التحول الثالث ، بتمكن الصين ؛ الدولة أعظم ، والتي لها حجم علاقات تجارية كبير مع الدولتين ، حيث يفوق حجم علاقاتها مع السعودية ، حجم تبادلات الأخيرة مع أمريكا ـ أقول تمكنت من إقناع جارين مسلمين تاريخيين بالمصالحة والإتفاق على إستعادة التمثيل الدبلوماسي بينهما ، وهي المصالحة التي تخدم الدولتين بشكل كبير ـ وتسهم في التفرغ لحل مشكلات داخلية في كليهما ، ومشكلات إقليمية في اليمن ولبنان والعراق وسوريا ، وعلى صعيد القضية الفلسطينية ، وفي مناطق أخرى ربما بتوحيد الجهود.
وتتيح للسعودية التحلل من ضغوط ظاهرة وخفية ، والذهاب بعيدا في علاقات متورمة مع الكيان الصهيوني ، وربما تتيح لها التحلل من تنفيذ قفزات إجتماعية داخلية غير محسوبة ، تثير الحاضنة الوهابية الداخلية للنظام السعودي تاريخيا، وقد تفقده توازنه ، بما في ذلك داخل الأسرة المالكة ذاتها .
وهنا ينبغي أن ندرك أن تل ابيب قد تعمد ـ وهي ترى ما حققته من إختراق للخليج بمواجهة إيران ، بات مهدداً بالتراجع، وأن مناطق الصراع المُشْغِلَة للمنطقة والمستنزِفة لها، تتجه للحل والهدوء الذي لا يخدم مصالحها ـ أقول قد تتجه إلى خلق مشكلات داخل السعودية ، باعتبار أن المصالحة تهدد مصالحها العدوانية الإستراتيجية ، معتمدة على وجود أرصدة بشرية وخلايا نائمة في الخليج والسعودية من ضمنه، تكشفت،بالتزامن مع إنفراجات مفروضة مع الكيان الصهيوني ، وذهاب هذه الخلايا بعيداً جداً ، إلى نقيض المسلمات التاريخية ( الظاهرة ) .
وكما السعودية فإن لإيران مصالح عديدة في قيام مصالحة حقيقية ، ففي ذلك فكاك لجانب هام من الحصار المفروض عليها منذ عقود ، والذي إستفحل في السنوات الأخيرة ، كما ويبعد عنها الخطر الإسرائيلي العسكري والأمني الوشيك من جهة السعودية ،ويسهم في التوصل لحلول تسيوية في الإقليم، كإنتخاب رئيس جديد للبنان ، وربما اصلاح النظام السياسي الذي طال عليه الأمد ، كغرسٍ فرنسي كريه ، لا بد من إعادة النظر به ، باعتباره سبب أزماته المتراكمة .
كما يفترض أن تسهم المصالحة في حال تمّت ، في تقوية موقعهما تجاه أمريكا والغرب وإسرائيل ، وحل الصراعات الجارية مباشرة وبالنيابة في سوريا والعراق واليمن، والتحول من صراع مدمر متعدد الأوجه، إلى تعاون مثمر لكليهما والمنطقة ، وبالنسبة للسعودية ؛ وضع حدٍ للمنافس التركي الأردوغاني من التمدد السياسي والجغرافي والعقيدي على حساب الرياض في العراق وسوريا وليبيا والصومال ، كما يتيح لطهران عدم الإضطرار لمجاملة أنقرة تحت ضغط الضرورة .
وسيتيح الحل بالنسبة لإيران حلولا أخرى .. منها إبعاد الخطر الإسرائيلي عنها ،وتقبل إقليمي معقول لدور لها في المنطقة محل إتفاق ، وإيجاد حلول مقبولة لمناطق ساخنة ، دون أن تفقد هيبتها أو تبدو متخلية عنها ، وهو في آن مطلب معلن لدى البعض وخفي لدى البعض الآخر .
ويخدم نجاح الوساطة الصينية ؛ الصين ، إذ ستكرس إبتعاد الخليج عن الولايات المتحدة والغرب بعامة ، وإمكانية تعميم الظاهرة لدى الدول التابعة الأخرى بعدم الرضوخ للسطوة الأمريكية ولمن يليها ، وهو بعامة يخدم القوى الجديدة الصاعدة ، ويتيح حلولاً عادلة لكثير من الملفات والقضايا العالمية كالمناخ والنت والطاقة والمياه والعملة ومناطق الصراع الساخنة والباردة ، وغيرها.
المتغير الرابع ؛ الوساطة الروسية الإيرانية بين سوريا وتركيا، والتي تحتاجها الأخيرة نظاماً ومعارضة ربما أكثر من سوريا ذاتها ، بعد دخول الحرب ـ المؤامرة عليها سنتها ألـ 13 ، وكانت سنوات الحصار الأخيرة الأشد في تبعاتها ، والتي (تُوجت) بزلزال مدمر نال 4 محافظات سورية ، وحتى ما قيل أنه جنوب تركيا ، هي أجزاء من سورية التاريخية والطبيعية وليست أراضٍ تركية ، مع ملاحظة أن الوجود التركي في المنطقة وجوداً طارئاً عمره قرون ، حيث ساعد اعتناق الترك للإسلام على استعمار المنطقة العربية وحكمها 4 قرون ، وجعلها في ذيل الأمم.
ومن المؤكد أن مرد فشل أردوغان وحزبه الإخوني في الأعوام الأخيرة ، كان مرده أوهامه بإستعادة العثمنة إبتداء بسوريا والعراق، ولتغليبه الاعتبارات العقيدية الأخونية على المصالح الوطنية لتركيا ، واللعب بعيدا في الصومال وليبيا ومعاداة دول مجاورة كاليونان وقبرص ومصر ، وتخيله بأن التقدم الذي تحقق في سنواته الأولى كانت بفضل (بتْعِه) وسياساته (الحكيمة)،وليس بفضل(صفر مشاكل) بخاصة مع سوريا ، حيث إنفتحت عليه على حساب بعض مصالحها ، بأمل أن تتوجه أنقرة شرقا وجنوبا ، وتبتعد عن الغرب والنيتو وأمريكا وعلاقاتها المتأصلة مع تل أبيب ، بأمل إقامة علاقات جوار نظيفة متوزانة لصالح الجميع .
لم يكن ليدرْ في خلد أحد ، أن أردوغان كان يبيّت أطماعاً وغدراً، أضر لاحقاً بمصالحها هي أيضاً ، لصالح الغرب بعامة والنيتو وإسرائيل والفكر التكفيري والرجعية العالمية المتلفعة بثياب الدين .
لقد أسفرت سياسات أردوغان العدائية البائسة،عن تراجع إقتصادي كبير، وقمع للحريات العامة، وتهديد للأمن القومي جراء تطور الحالة الكردية، وأسفر اللجوء الذي غذّته تركيا وأعدّت له مسبقا، قبل بدء الحرب ـ المؤامرة ، بإقامة مخيم ( 5 نجوم )لإستقبال 100 ألف لاجيء ـ ليكون سلاحاً بيدها ، ظناً منها أنها أسابيع ، ويتم إسقاط الدولة الوطنية السورية، والتوسع على حسابها جغرافياً وعقيدياً وسياسيا، فإذا بالإرهاب ينتقل في جوانب منه إلى داخلها، ويهدد أمنها الحدودي وتُثقل بالأزمات الإقتصادية والإجتماعية ويتلاشى إستقرارها وتتكاثر إنقساماتها كالفطر ، وتتحول من صفر مشاكل إلى ( كل مشاكل ).
وهكذا تصبح المصالحة والتهدئة مع سورية مطلب النظام لكي يجدّد له ، ومطلب المعارضة لكي تقفز إلى الحكم، وفي ظن البعض ان في إستعادة الأتاتوركية طريق الخلاص ، وأولها التحلل من أزماتها مع الجوار وأولهم سورية ، وبهذا المعنى فخشبة الخلاص لتحقيق ذلك روسيا أولاً وإيران ثانياً ، فسوريا حليف رئيس لموسكو وتركيا صديقة الضرورة .. وبذلك فالحل يخدم روسيا بدرجة ثالثة بعد كل من تركيا فسوريا .. حيث يتيح لأنقرة إستعادة وضعها الإقتصادي والتفرغ لقضايا أخرى ذات أهمية كالإستقرار الإجتماعي والخلاص من ضغوطات اللجوء المتعددة ، وتبعات بقاء الحال على حاله ، والتىحلل من تبعات الأخونة التفكيكية للمجتمع وإستعادة الأمن المفقود جراء وجود جماعات إرهابية داخلها وعلى حدودها ، فضلاً عن قسد ، الذي سيصبح وجودها مستحيلا مع تحقق المصالحة ، كما سيصبح موقف أنقرة ؛ تجاه واشنطن والإتحاد الأوروبي والنيتو وتل أبيب أقوى.
وبالمصالحة تتحلل تركيا من عبء تنفيذ كل ما يريده الكيان الصهيوني ، وممارسة دور أكبر على صعيد القضية الفلسطينية ، والتحلل من الضغوط العقدية الإخونية ، سواء بقي أو ذهب أردوغان ، وبالنتيجة توصل الأتراك إلى قناعة بأن مصالحهم تمتد شرقاً وجنوبا وليس غرباً ؛ بحال ، ويصبح اللحاق بموقعٍ في النظام العالمي الجديد ممكنا.
ويتيح الحل السوري التركي إلى طمأنة الإقليم بعامة ، موضوعياً بأن ليس لتركيا مطامع عقدية أو جغرافية أو سياسية وأمنية ، بخاصة لدى العراق والسعودية والإمارات ومصر ولبنان ، الأمرالذي سيقض مضجع الصهاينة ، ويراكم تناقضاتهم الداخلية المحبَطة من تلاشي مقومات أطماعهم التوسعية .
كما ستُحبَط المشاريع الإنفصالية الكردية في الإقليم ، والمراهنات على واشنطن وتل ابيب ، وستستبدل بمطالب ثقافية وحقوقية في ظل دول مركزية قائمة ويتلاشى نهائيا المراهنة على الأجنبي والخارج .
وتعطي المصالحة ؛ إيران دوراً معنويا في الإقليم ، وتجعل فكاكها بشكل مشرف محل إتفاق ، أو بقاءها بشكلٍ مقنن متعارف عليه دوراً وحجما وليس محل إنتقاص ولا مزاودة وبقبول ـ كما هو الآن ـ الدولة الوطنية السورية ، الأمر الذي يريح الجميع ، ويقطع دابر التصعيد الإسرائيلي وسواه من خارج المنطقة .
وباستكمال المصالحتين ؛ الإيرانية السعودية ؛ والسورية التركية ، والعودة العربية إلى سورية؛ ينكفيء الدور الإسرائيلي الضارب في الإقليم ، والسياسي (الإبراهيمي) الزائف ، وتقترب منها استحقاقات الحسابات العسيرة ؛ المباشرة ( وبالوكالة) .
وفي حال تمت المصالحتين والعودة الى الحضن السوري الدافيء ، يصبح إيغال المعسكر الغربي في التورط ضد روسيا والصين ، مغامرة غبية وإنتحاراً مجانياً لصالح نظام عالمي جديد لا وزن لأمريكا داخله ، والأفضل لأمريكا ومن معها تجنب المصير البائس ، والبحث عن وسطاء من الأصدقاء ( القدامى ) كالسعودية وتركيا والهند وباكستان للجلوس مع الصاعدين الجدد .. تجنباً للمصير المحتوم من أن يقع لا محالة في حال ركبوا أدمغتهم الفارغة .