سمير عادل
نشر الأوهام بأنه بطل تخفيض الدولار، وإشاعة أجواء قمع الحريات الذي دشن بزوبعة إعلامية كبيرة حول إلقاء القبض على أصحاب "الفيديوهات الهابطة" وتفعيل قانون منع او حظر بيع واستيراد المشروبات الكحولية، وضرب المتقاعدين المسنين في تظاهرات طالبوا بزيادة معاشاتهم، وانتهاء بتحويل شهر رمضان الى فرصة لإعادة إنتاج أسلمة وإفقار المجتمع، هو الإيقاع الذي تسير عليها فتوحات حكومة محمد شياع السوداني.
تبدأ فتوحات السوداني بإعلانه تخفيض سعر صرف الدولار امام الدينار العراقي ليكون ١٣٢٠، إلا ان الوقائع تبدد الأوهام التي تنشرها الحكومة، فسعر صرف الدولار ظل يتراوح بين ١٥٥-١٦٠ ألف دينار مقابل كل ١٠٠ دولار. وكي يحبك السوداني، ذر الرماد في عيون الجماهير المحرومة في العراق التي اكتوت بنار التضخم جراء ازمة النظام الرأسمالي العالمي والحرب الأوكرانية الى جانب انخفاض قيمة الدينار بقرار حكومي، راح يروج بأنه يبيع الدولار بالسعر الرسمي المعلن للمسافرين العراقيين، وكان حال العراقيين من اليسر والرفاهية الى الحد الذي يمكنهم بالاستجمام خارج بلادهم، وليس ما تبينه حياتهم وأرقام وزارة التخطيط والمنظمات الدولية بأن ما يقارب من نصف سكان العراق يعيشون في خط الفقر، فهل هناك مشهد يثير السخرية أكثر من هذا، ويعتبر السوداني بطل هذه الكوميديا السوداوية.
إن السؤال البسيط الذي يُطرح هنا، لماذا لم تنخفض قيمة الدولار بعد كل هذه الزوبعة الإعلامية واطلاق الدعايات الكاذبة، بأن الوفد العراقي يجتمع مع ممثلي الخزانة الامريكية في إسطنبول، وان الوفد العراقي غادر للقاء ممثلي الخزانة الأمريكية في واشنطن، وبان الإدارة الامريكية راضية على أداء الحكومة العراقية بمكافحة تهريب العملة.. الخ من تلك الترهات، والنتيجة أن سعر صرف الدولار بقي على حاله في الأسواق، وفقدت رواتب ومعاشات العمال والموظفين أكثر من ٤٠٪ من قدرتها الشرائية وقيمتها السوقية.
وهنا لا بد من التأكيد، أن تخفيض سعر قيمة الدينار العراقي غير مرتبط بتهريب العملة الى ايران، انما مرتبط بقرار المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الذي وقع العراق معها لأجراء "إصلاحات" اقتصادية بما يتلاءم مع مستلزمات ربط العراق بالسوق الرأسمالية العالمية، وأولها جلب الاستثمارات الرأسمالية العالمية الى السوق العراقية يقابله دفع معاشات ورواتب واجور زهيدة للعاملين في الميادين التي تستثمر فيها تلك الأموال، مستفيدة من عامل فرق العملة.
وكان من المفترض رفع سعر صرف الدولار الى١٦٠٠ لكل دينار في عهد حكومة الكاظمي، الا انه ارجٍأ القرار الى الحكومة التي تأتي بعدها كي لا تثير غضب وسخط الجماهير.
أما الفتوحات الأخرى لحكومة السوداني، فهي على صعيد الحريات و يجدر التذكير بها، فأولها هي تدشين عهد حكومته بالضجة الدعائية المفتعلة عن إلقاء القبض على مروجي ما يسمى ب(الفيديوهات الهابطة)، وعلى الرغم من أن محكمة التمييز نقضت الأحكام الصادرة بحق المتهمين المذكورين التي وصلت حكمها مدة سنتين بالسجن بعد الحملة السياسية التي نظمت ضد تلك الأحكام الجائرة، الا ان نفس الموضوع بقدر انه يكشف عن الوجه القمعي لكل المنظومة السياسية الحاكمة في العراق بما فيها ذراعها التنفيذي، حكومة السوداني، بنفس القدر ان اختلاق موضوعة نشر "الفيديوهات الهابطة" تعبير عن سياسة قديمة روج لها النظام البعثي الاستبدادي في العراق وفي مطلع السبعينات من القرن الماضي من أجل الهاء الجماهير وتحريف أنظارها عن السلطة البعثية التي جاءت عبر الانقلاب العسكري التي كانت بحاجة الى ترسيخها وتثبيتها، فمرة ذهبت الى افتعال ازمة فقدان البيض في الأسواق وأخرى افتعلت ازمة الدجاج ومرة الزجاجيات... الخ وبموازاتها افتعلت قضية (أبو طبر) الشهيرة لنشر الخوف والهلع في المجتمع، و تعتبر قضية "الفيديوهات" الهابطة هي إعادة للسيناريو النظام البعثي السابق.
ويتغير شكل القمع إلا أن استراتيجيته تبقى نفسها، وهي ترسيخ تلك السلطة المليشياتية التي تهاوت على اثر ضربات انتفاضة اكتوبر، فتظاهرة للمتقاعدين تقمع بهراوات الشرطة ومكافحة الشغب ويضرب متقاعدين مٌسَنّين وصلت اعمار بعضهم الى ٧٠ عام، و لتكتمل حلقة الاحكام والاقفال على ذهن الجماهير، كي لا تحلق بعيدا وتفضي الى نتيجة مفادها أن حكومة السوداني وكل العملية السياسية عليها بشد رحالها، ذهبت الى تفعيل قانون حظر بيع واستيراد المشروبات الكحولية الذي صوت عليه البرلمان عام ٢٠١٦ في عهد حكومة حيدر العبادي، لتوجه ضربة أخرى للحريات الفردية.
بيد ان كل هذا المسار سواءً على الصعيد الاقتصادي او على الصعيد الاجتماعي يبقى ناقصا دون أيديولوجية تخلق الذرائع في فرض هيمنة هذه السلطة الميليشياتية التي تسمى بحكومة السوداني لترسيخ مكانتها، "فكل شيء من أجل معركتها"، فشهر رمضان فرصة مناسبة لإعادة إنتاج الأسلمة على المجتمع العراقي. فهي لم تكتف بتعطيل الحياة بالمناسبات الدينية طوال السنة، وغلق الشوارع وسرقة ما في جيوبنا نحن العمال والكادحين سواءً على شكل ضرائب او تخصيص موازنات لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية التي تتجاوز أكثر من ٢ مليار دولار سنويا وسرقة أموال الخدمات، فبعد قضية "الفيديوهات الهابطة" تأتي إطلاق يد وزارة الداخلية لاعتقال أي شخص يمسك سيجارته بيده او حتى عامل بناء يأكل اثناء عمله كما نشرت في فيدويهات على شبكات التواصل الاجتماعي، ففرض الالتزام بالطقوس الدينية ومن لون واحد ضاربة بعرض الحائط كل الانتماءات الفكرية والسياسية والاجتماعية والدينية لأفراد المجتمع وممارسة حقوقهم بحجة شهر رمضان هو مساعي سافرة لإعادة سيناريو البعث الذي كان يفرض نفس السياسات القمعية منذ نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي. الا ان هذه المساعي لا تقف عند هذا الحد، وكي تنشر الفقر بما يتلاءم مع سلاح الدين كي تمسك بخناق المجتمع، ذهبت الحكومة الديمقراطية الموقرة بقيادة السوداني وعلى خطى البعث، بغلق المطاعم والمقاهي وكل ما له صلة بالطعام، راميا آلاف من العمال في سوق البطالة، وكان العراق ينقصه أعداد من العاطلين عن العمل. وهكذا فإن الفقر والحرمان مرتبط بالاسلمة، فدونهما لا يقوم أي قائم للأحزاب الإسلامية والأحزاب القومية التي تتعكز على الدين.
وأخيرا اذا ما جردنا السوداني القادم من حزب الدعوة الاسلامي ومرشح المليشيات وقتلة المتظاهرين من الهالة الإعلامية التي يحيط نفسه بها، ونخرس الأبواق الدعائية التي تعزف لصولاته وجولاته في باريس و برلين وإسطنبول، والمقابلات التى يجريها مع وسائل الإعلام المختلفة لتسويق زمجرته بمكافحته للفساد، فإنه لا يحمل في جعبته أكثر مما حمل جعبة كل حكومات الميليشيات التي تشكلت منذ غزو واحتلال العراق.