هجرة الملائكة

ثلاثاء, 03/28/2023 - 16:36

 

 

عالية محمد علي

خطوات مرقعّة الثبات ، كدت أتعثر بطريقي إلى تسلق المنحدر ذي الخمسة أمتار المؤدي لبوابة مدرسة ثانوية قديمة ، أسترق النظرات حولي بزاوية مائلة بإنتباه شديد وإن بدت علي اللامبالاة ، ففي الجوار ساحة لتفريغ البضائع تهبط إليها من سماء التجارة الغائم آلاف من الشاحنات وعمٌال أشداء تقودهم امرأة شديدة المراس ، ليسدوا جوع السوق لكل ما لا يخضع للتقييس والسيطرة النوعية ، فأغلبية المواطنين من محدودي الدخل . 

 

 

أقبض بشدة على حقيبتي التي غصت بسجلات وأوراق مهمة خاصة بالتحقيق لشهادات دراسية مزورة ! خوفاً عليها من حادث يسلبني مصداقيتي أمام مديري ، وفيها نسخة من قصة "أحببتك أكثر مما ينبغي" للكاتبة أثير النشمي ، والتي انقضت بعض عباراتها على رأسي كصاعقة ، وبطبعي أحمل كل ما يصعقني في جيبي !

 

 

ألقي التحية بعجالة على الحراس الأمنيين ، بطريقي نحو غرفة الإدارة ، اعتدل بجلسته كل من فيها ونهضوا لاستقبالي بمودة ، تبادلت بعض الأبتسامات التي لا بد منها ، كي أحصل بدلاً عنها عن النصف الساعة المعهودة التي أقضيها منفردة مع الجدران في أحد الصفوف الدراسية التي درست فيها أثيرتي الشاعرة نازك الملائكة ! ولا يضايق فيها وحدتي أحد ، ولأبدأ بعدها بيوم عمل لا بد منه . 

 

 

في هذه النصف الساعة الطقس ، أُترك وحيدة كمصاب بالطاعون لا يقترب منه أحد ، ولا ألقي بالاً للكثير من علامات الاستفهام التي أحسها مغروزة في ظهري حين تستقبل عيني نظرات التساؤل بعد خروجي من غرفة الصف وجفني يرمش سريعاً مستقبلاً نور الشمس بعد العتمة ، كنت قد أغلقت الباب الذي أصدر صريراً مصحوباً بضحكات تأتي من بعيد لطالبات يجدن متنفساً في المدرسة للمرح بعد مغادرتهن صباحاً لبيوت ملتصقة ببعضها بتقاليد وأعراف حاكمة تجد في ضحكة البنت عاراً وشناراً ، كانت الغرفة نصف معتمة بستائرٍ رثة ونور ضئيل كذبالة قنديل يتسرب من حديد الشباك وزجاجه المكسور يجعلني أدور مع الآف من ذرات الغبار التي تتراقص أمامي محتفية بقدومي وطقسي ولحظاتي المباركة ، جميل أن يكون المحتفي بك الغبار وحده .. رددتها بسعادة ، فما يسعدني قد لا يُسعد الأخرين ، حتى نظرتي للفرح والرضى كانت مختلفة وأبعدها أفقاً : كسرة خبز أتقاسمها يوماً مع من أُحب ! 

 

 

أصارع لإثبات نظريتي بمواجهة نظرية الكرسي المتهالك الذي سأجلس عليه ، نظرية الكرسي تقول بأن ملابسي ستتسخ بطبقات الغبار المتراكمة عليه ، ونظريتي تقول إن صديقي الغبار لن يجرؤ على أن يلتصق بثوبٍي الأنيق ، أبتسم لمنديلي المعطّر المندّى ببعض الماء الذي سحبته من علبة صغيرة أحملها معي وأظنه كافياً لتنظيف الكرسي كيفما اتفق ، الكرسي الذي رفضت مخازن دائرتي اعتباره مستهلكاً مع كومة من الأثاث القديم رغم عشرات من صيحات الحقيقة الموثقّة بالأختام بأنه لم يعد صالحاً للاستعمال ! 

 

 

تنبّه أنفي الى رائحة رطوبة وعفن ممتزجة برائحة زكية لشاي في فورته الأولى قادمة ربما من أحد المنازل الملتصقة بالمدرسة بصمغ السنين ، فتنتابني الرغبة بتناول كوب منه لعله يبعد برودة الغربة التي شعرت بها على حين غرّة ، حين سمعت صوت رعدٍ بعيد . أتنفس ببطء عميق مستحضرة روح الشاعرة الشابة التي أحسستها هنا ، لا أدري سبباً منطقياً لهذا اليقين ، لكنها هنا على أية حال ، وصلت إلى قناعة وأنا أنظر للمرآة التي فقدت صفائها بمرور الوقت وكانت كل ما تبقى من درس الخياطة السالف ويقيناً أن أنعكاس الصور لم يستثن أحداً فالمرآة عامل جذبٍ قوي لوجوه كانت هنا ومن ضمنها وجهها ! 

 

 

لمحت ظلها مرتسماً على ماتبقى من سبورة على الجدار ، ربما فشلتْ في حل معادلة رياضيات ، فالمغرمون بالأدب والشعر كثيراً ماتكون مسائل الحساب لأرواحهم مجرد سقم وعناء ، فالخيال الشعري والذائقة المترفة لا تعترف بنتائج المعادلات والأرقام ، فللشاعر معادلاته الخاصة التي لا تُبنى على علامات الزائد والناقص ! 

 

 

أنقر على الطاولة المُتربة وأضع ما علق من غبار في فمي متذوقّة ما قد يتراكم يوماً ويغطيني حين ألتحق بركب الراحلين ، متسائلة هل نازك من الراحلين !؟ وها هي مفعمةٌ بالحياة تدور حول قطب كلماتها تتغاوى بالزي المدرسي الجديد في أول يوم من العام الدراسي الذي بقي جديداً كأنفاس كلماتها وإلى أبد الآبدين ، هنا لاحقتها الأعين وهي تخوض محنة إلقاء الشعر وتتحدى بحنجرتها مجتمعاً لا يعترف بالشعر النسائي آنذاك ، هنا قالت بهدوء لاءها الخاصة الصاخبة الرافضة لقطعان المحرمات والعيب واللا يجوز ! لمحت دمعة على وجه طيفها تنزل ببطء شديد كقطرة من القار الذي أثبت العلماء أن قطرته تحتاج إلى ثلاث سنوات لتنزل بحكم الجاذبية ، أغمضت عيني على ضحكات صويحباتها ضحكات دهشة أو إعجاب وربما إزدراء ، والصدى يردد : سيقتلونك ببطء يانازك أو يجعلك المجتمع تقتلين نفسك بلحظة انتحار ، فهاجس الشعر لا يتفق مع هاجس القلوب المريضة ! إنك تخرقين الجدران بالكلمات ، ومن غير المسموح للجدران أن تُخترق إلا بالرصاص ، في زمن كان فيما مضى وأتى وسيأتي يتحدث فيه العراق بلغة واحدة ، لغة الحديد والنار ! فأين ستُخفين قدر أجنحتك المُحلقة أيتها الفراشة ، في أزمنةٍ تموت فيها الفراشات وهي لا تزال في الشرانق ! 

 

 

ترى هل ستموت فراشتك بالكوليرا ، تلك القصيدة التي تنبأتِ بكتابتها وأنت تبتسمين بوجوم واقفة بلا حراك تقبضين على طبشور الشعر ! الكوليرا نعم .. ، أكنت تبكين بمرارة وأنت تكتبين :

في كهف الرعب مع الأشلاء

الموت الموت الموت

في شخص الكوليرا القاسي ينتقم الموت ! 

 

 

تنبأت بكوليرا الغباء والتخلف يا أثيرتي وكأنك كنت ترين بعين بصيرتك كل الموتى الذين سيموتون بعدك ، بالكوليرا وبغيرها !

تزداد عتمة الغرفة بتجهم السماء وباحتمال هبوب عاصفة رعدية وبدأ الجو الصباحي يقترب من ظلمة مسائية ، وكأن التوقيت مقلوب ولا يعيده سيرته الأولى جرس الحصة الأولى التي ستبدأ الأن ، أغوص بمحيط ليلّي كثّف سواده انقطاع التيار الكهربائي ، فأعيش عشق نازك لليل بكل هنيهاته ، وتبدأ روحي المتعثرة بالظلام تحاورها : ياعاشقة الليل أنا مثلك لطالما حاولت إحراق أجندات الأرق دون جدوى ، تنام عيني ويبقى قلبي مؤرّقاً لا يغفو ! 

 

 

مستذكراً أمنياتنا التي تشترك بعصيانها على التحقق :

هو ، ياليل ، فتاة شهد الوادي سُراها

أقبل الليل عليها فأفاقت مقلتاها

ليت آفاقك تدري ما تغنت شفتاها

آه ياليل وياليتك تدري ما مناها

أصفق كفّاً بكفّ وأعود لأضع كلتا يداي على وجهي محاولةً إخفاء سحابة منذرة بمطر وأنا أردد :

ليتك تدري ما مناها !؟ وما منايّ !؟ 

 

 

حاولت الدوران بالكرسي بعد أن نسيت لحظتي الراهنة وظننته دوّاراً ، فكان عصياً عن الدوران ، فلويت عنقي اضطراراً الى رفّ كتب عتيقة طحنها الزمن ، تناولت كتاباً مُصفّر الأوراق لقسوة ما مضى ، وأنصتُ بروح مُكبلة لحفيف الصفحات الذي رافقه أنين مكتوم لنازك وهي في موطن الاغتراب ، ولبرهة تراءت حقائب سفرها وشالها الملون وهي تبتلع قبل السفر رمقها البغدادي الأخير ! 

 

 

وكأن هجرة الملائكة قدر كل ملائكة بلادي !

 

 

صدى أنينها اصطدم بالجدران وتشظى ، قبل أن ينسكب ويسيل على الجدار وجعاً آدمياً لقلب كان أكثر من آدمّي ! فأُنصت لرعد يبدو وكأن سماء هذا الصبح قد تواطأت معه ، وكاد خيط النور ينسحب من الشباك المتعب والعتمة تكاد تُغرق المكان وظلال أكثر من شبح ترافقنا ، ربما كانوا أحبةً تمنت وجودهم في حياتها المكسورة فلم تُفلح ! 

 

 

ويتردد صوتها من قاع بئر السنين :

انصتي ، هذا صراخ الرعد ، هذه العاصفات

فارجعي ، لن تُدركي سرّاً طوته الكائنات

قد جهلناه وظنت بخفاياه الحياة

ليس يدري العاصف المجنون شيئاً يافتاة

فارحمي قلبكِ ، لن تنطق هذه الظلمات . 

 

 

أنهض لمغادرة الغرفة كي أعود إلى حياتي ، مشرئبة على حافة حلم يرتجي يقظة ، ونازك تودعني بــ : ارحمي قلبكِ لن تنطق هذي الظلمات 

 

 

أعرف أنها لن تنطق هذه الظلمات

فالنور هو الناطق الوحيد

لن أحاول حتى مجرد محاولة أن أزيل صفة الخرس الأصيلة للعتمة

لأن الظلام أبداً لن ينطق

لن ينطق !

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطرائف