عادل الجبوري*
قلنا في مقال سابق، ان "الحلول للأزمات والمشكلات بين بغداد وأربيل، وإن كانت صعبة الا أنها ممكنة وغير مستحيلة، بتوفر النوايا الحسنة، والارادات الصادقة، والتقديرات الموضوعية لكل الامور، والانطلاق من حقيقة ان ضعف وتشرذم الاقليم لايخدم بغداد، والعكس صحيح ايضا".
بهذا المعنى، تحدث زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني من العاصمة بغداد، التي زارها الاسبوع الماضي، بعد انقطاع امتد لستة اعوام، شهدت الكثير من التجاذبات والمناكفات بين المركز والاقليم، وبالتالي اتساع مساحات الاختلافات والتقاطعات حول مجمل القضايا الخلافية، رغم ان التواصل والحوار لم ينقطع او يتوقف بين الطرفين على كل الصعد والمستويات.
التقى البارزاني في بغداد مختلف الزعامات والشخصيات الحكومية والحزبية الفاعلة والمؤثرة في المشهد السياسي العام، واجرى مباحثات وحوارات تفصيلية وصريحة، ومن بين ما قاله "أن المناخ السياسي العراقي يشهد انفراجة وانفتاحاً، ويمكن أن يكون ذلك فرصة جيدة لتبادل الرؤى حيال العقبات وسبل معالجة المشكلات.. وأن الدستور يشكّل أساساً متيناً لجميع الأطراف السياسية من أجل التغلب على المشاكل والتحديات". ومن بين ما سمعه من مضيّفيه في بغداد، "قطعنا شوطاً مهماً في بناء الثقة بين حكومتي المركز والإقليم وتجاوزنا المشكلات الموروثة".."ومن المهم جدا مواصلة الحوارات البناءة، والتعاون والتكاتف للتغلب على كل العقبات والمشاكل القائمة، وفقا للدستور والقانون والمصالح والمشتركات الوطنية العامة".
لاشك تبدو الأرضيات والمناخات والظروف ملائمة أكثر من أي وقت مضى لحلحلة العقد المستعصية والشائكة بين بغداد واربيل. فالحكومة الاتحادية الحالية برئاسة محمد شياع السوداني، تبنت منهجا عقلانيا هادئا بعيدا عن التشنج والانفعال في التعاطي مع مختلف الملفات، لاسيما تلك المرتبطة بإقليم كردستان، وتمكنت من إحراز بعض التقدم، وان كان الأمر بطيئا نوعا ما.
وقابل ذلك، مرونة وتجاوب كردي مع العديد من المقررات والأحكام القانونية والقضائية والإجراءات الفنية للحكومة الاتحادية، رغم الاعتراضات، وبرز ذلك واضحا من خلال تفعيل اعمال اللجان المشتركة في مختلف العناوين، وخصوصا المالية والأمنية والاقتصادية، دون ان يعني ذلك بالطبع طيّ صفحة الخلافات والاختلافات والتقاطعات بالكامل، لان الوصول الى ذلك الهدف يتطلب وقتا طويلا وجهدا كبيرا.
ومثلما تبلورت قناعات لدى صناع القرار في بغداد مفادها، انه لا سبيل لوضع حد لحالة الصدام المستمر بين المركز والاقليم الا بسلوك طريق الحوار البناء، فإن صناع القرار في الاقليم، وتحديدا في اربيل، ادركوا تمام الادراك، ان لاخيار امامهم اذا كان يريدون اخراج الاقليم والشعب الكردي من دوامة المشاكل والازمات المجتمعية الخانقة، الا بالتوجه الجاد والصادق نحو بغداد، والتعامل بقدر كبير من الواقعية مع مجريات الوقائع والاحداث، لاسيما وان التجارب اثبتت خطأ المراهنة والتعويل على الخارج من اجل فرض خيار معين، ربما يتقاطع بشكل او باخر مع الثوابت والمصالح والمباديء الوطنية.
وطبيعي ان التفاهم والتوافق بين المركز والاقليم من شأنه ان يساهم في تطويق مساحات الخلافات داخل البيت الكردي، ويبعد عنه شبح العودة الى الاقتتال الاهلي والتفكك والانقسام السياسي والمجتمعي والجغرافي، وفوق ذلك، يمكن ان يساعد بصورة مباشرة او غير مباشرة في الحد من التدخلات الخارجية، لانه متى ما كانت الاوضاع السياسية والامنية والاجتماعية هشة ومضطربة وقلقة، تشجع وتجرأ الاخرون على التدخل والحضور السلبي المرفوض.
والنقطة الاخرى التي لاتقل اهمية عن النقاط المشار اليها، هي انه من غير المعقول ان يشهد العراق انفتاحا كبيرا على محيطه الاقليمي والعربي، والفضاء الدولي العام، وان يشكل محطة لالتقاء الخصوم والفرقاء الاقليميين، في الوقت الذي يعجز قادته واصحاب القرار فيه عن تطويق واحتواء خلافاتهم واختلافاتهم، وتأسيس قاعدة رصينة وقوية للحوار المنتج للحلول والمعالجات الحقيقية المطلوبة.
ومما لايختلف عليه اثنان هو ان تعزيز مكانة العراق الاقليمية والدولية، وحضوره الفاعل في كل المحافل والميادين، وحضور الاخرين فيه، سياسيا واقتصاديا، يتطلب ان تكون بيئته السياسية والامنية والمجتمعية مستقرة وجاذبة، وكما مثّل القضاء على تنظيم داعش الارهابي منجزا امنيا مهما، فأن تطويق واحتواء المشاكل والازمات والخلافات بين الشركاء في داخل الوطن، يعدّ منجزا سياسيا لايقل اهمية عن المنجز الامني، لان كلاهما يكمل الاخر، وأي خلل في احدهما لابد ان ينعكس سلبا ويلقي بظلاله على الاخر، وتجارب الماضي اثبتت ذلك واكدته على ارض الواقع.
وأيا تكن مسارات الحوار وظروفه وعناوينه وادواته وضروراته بين بغداد واربيل، فإنه لن يثمر ولن ينتج ما لم يتأسس على الثقة الحقيقية، التي ربما تكون قد غابت في اغلب المراحل والمحطات السابقة، ان لم تكن جميعها، وهذا ما يعيدنا الى ما قلناه سابقا، واشرنا اليه في اول السطور.
--------------------------
*كاتب وصحافي عراقي