خالد عثمان السبع
قصة قصيرة جدا : في مرتفعات حدودية فاصلة بين البلدين المتحاربين, تكدست جثث القتلى من الطرفين في العراء لعدة سنوات دون أن يفكر أحد بإنتشالها, ربما بسبب ضيق مساحة الأرض الحرام المملوءة بالألغام والأسلاك الشائكة أو بسبب غزارة نيران القناصين المتقاطعة التي كانت تصدر من كل طرف حينذاك . يبدو للرائي أن تلك الجثث الخامدة كانت تتخذ وضع الانقضاض المتعاكس على شكل خطين متوازيين ضد بعضها البعض, فمن المؤكد أنها هلكت نتيجة اشتباك قريب وعنيف جدا، حتى استحالت, بتوالي الأيام والسنين, إلى هياكل عظمية ورمم بالية تنتشر على ضفتي واد سحيق .
وحتى بعد انتهاء الحرب, بقيت الجثث على حالها في ذات المكان ولم يتذكرها أحد من الزعماء السياسيين أومن قادة الجيوش المتحاربة, فطواها النسيان . ذات يوم شتائي عاصف, كشرت الطبيعة عن أنيابها وأظهرت بأسها وجبروتها الحقيقيين, إذ هطلت أمطار غزيرة على غير العادة بعد عقدين من الجفاف, فتشكلت سيول عرمة, انحدرت بعنفوان شديد من الجبال العالية فامتلأت الوديان بالمياه الهادرة, ومن ضمنها, ذلك الوادي . جرفت المياه معها تلك العظام النخرة التي اختلطت مع بعضها البعض لأول مرة, بعد أن كانت تتخذ وضع الاستعداء على طرفي نقيض, نحو منخفض فتشكلت منها بحيرة كبيرة غطت مساحات واسعة من ذلك السهل الفسيح . وأخيرا, وجدت تلك العظام والرمم راحتها لتستقر بسلام جنبا إلى جنب, تحت طمى تلك البحيرة التي صنعتها السيول, دون أي مظهر من مظاهر الاختلاف والكراهية والاستعداء .