بدا العراق كما لو أنه غائب تماما من حسابات واهتمامات وأولويات الرئيس الأميركي القديم-الجديد، دونالد ترامب، إذ أن مجمل تصريحاته وقراراته التي ادلى بها واتخذها خلال الأيام الأولى من ولايته الرئاسية الثانية، لم تتطرق إلى العراق، لا من قريب ولا من بعيد.
في ذات الوقت، فإن التعاطي العراقي مع دخول ترامب إلى البيت الأبيض مرة أخرى، افتقر إلى الوضوح، فالبيانات الرسمية الحكومية، اتسمت بالدبلوماسية التي تفرضها مناسبات واحداث من هذا القبيل. وتصريحات وبيانات القوى السياسية تباينت بحسب علاقاتها مع واشنطن، أو موقعها في معادلات الصراع والمحاور الاقليمية والدولية.
وما ينبغي الإشارة إليه هنا هو أن ولاية ترامب الرئاسية الاولى(2017-2021), كانت حافلة بالكثير من الاحتقان والتشنج والتأزيم بين بغداد وواشنطن، بسبب الاستهدافات الأميركية لقوات الحشد الشعبي، وانتهاكها السيادة الوطنية العراقية، حتى وصل بها الأمر إلى تنفيذ عملية اغتيال كل من نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي ابو مهدي المهندس، وقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، على أرض عراقية، وتحديدا قرب مطار بغداد الدولي، ناهيك عن دخول وخروج كبار الساسة الاميركان، وفي مقدمتهم ترامب نفسه، إلى العراق بأساليب وطرق فجّة، في انتهاك صارخ لكل الضوابط والتقاليد والاعراف السياسية والدبلوماسية التي تنظم العلاقات بين دول وحكومات العالم.
أضف إلى ذلك فإنه في عهد ترامب الاول، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على العديد من الشخصيات السياسية والجهادية العراقية، تحت ذريعة ارتباطها بالجمهورية الإسلامية الإيرانية أو حزب الله اللبناني.
هذه المواقف الأميركية السلبية حيال العراق، التي كانت في جانب كبير منها انعكاسا لطبيعة شخصية ترامب ونهجه العدائي التأزيمي، تداخلت وتشابكت مع مجمل مواقفه وسياساته حيال جملة ملفات اقليمية، كالملف النووي الايراني، وملف الأزمة السورية، وملف الصراع الفلسطيني-الصهيوني، وملف التطبيع بين تل أبيب وعدد من العواصم العربية.
ولعله كان من الطبيعي جدا، أن تختلط الاوراق، وتتشابك الخيوط، وتضطرب المسارات، لاسيما بعد عملية المطار في فجر الثالث من كانون الثاني-يناير 2020، واتخاذ البرلمان والقضاء العراقي قرارات استفزت واشنطن، من قبيل، الزام الحكومة بإنهاء الوجود الاميركي، ورفع دعاوى قضائية ضد ترامب بإعتباره مجرما، فضلا عن تصعيد العمليات العسكرية لفصائل المقاومة ضد القوات الأميركية المتواجدة في قاعدة عين الأسد بمحافظة الانبار، وقاعدة فيكتوريا في بغداد، وقاعدة حرير في اربيل، وأكثر من ذلك استهداف السفارة الاميركية، لأنها تضم اعدادا لا يستهان بها من الجنود، وتعد مركزا لوضع الخطط والاشراف على تنفيذها ضد الحشد والمقاومة.
من كل هذه الخلفيات وغيرها عاد ترامب من جديد إلى البيت الابيض، وهو متحمس جدا لقلب الأمور رأسا على عقب، وتصحيح كل المسارات والسياسيات الخاطئة لسلفه جو بايدن!، وهذا لسان حاله في كل حديث قبل فوزه في السباق الرئاسي وبعد الفوز أيضا.
بيد ان البدايات اشرت الى عكس ذلك، فبدلا من إعادة ترتيب الأوراق، وفك تشابك الخيوط، راح ترامب يضرب يمينا وشمالا، فمرة يشرع بترحيل اللاجئين الى بلدانهم بواسطة طائرات عسكرية بطريقة مهينة ومذلّة، ومرة يطالب بتهجير الفلسطينيين الى مصر والأردن، ومرة يفصح عن نيته الاستيلاء على دول ومناطق أخرى، ومرة يغيّر أسماء بحار وخلجان!.
وفي خضم هذه التفاعلات والانفعالات، يبدو ان التعاطي الأميركي-الترامبي مع الملف العراقي، يرتبط-او يتحدد بثلاث مسائل، هي:
*مسارات الأمور في عموم المنطقة، لاسيما في سوريا ولبنان وفلسطين، لأن التصعيد يمكن ان يدفع واشنطن الى تعزيز حضورها وتواجدها العسكري في المنطقة، بدلا من تقليصه، تحت ذريعة مواجهة تنظيم داعش والجماعات الإرهابية الأخرى. لان الولايات المتحدة التي عززت اساطيلها وجيوشها في المنطقة لمحاربة داعش قبل بضعة اعوام، كما هي ادعت ذلك، ستجد في عودة هذا التنظيم الى الواجهة، وخصوصا بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، فرصة ذهبية لتعزيز ذلك الوجود وليس المحافظة عليه فقط.
*مسار العلاقات الأميركية-الإيرانية، وفيما اذا كان يتحرك بإتجاه التهدئة وإعادة احياء الاتفاق النووي، ام استمرار ترامب في التشبث بمواقفه التصعيدية المتشددة ضد طهران، ومواصلة سياسة "الضغوط القصوى" لارغامها على الإذعان والاستسلام.
ومن غير الواضح فيما اذا كان ترامب ومستشاريه، قد ادركوا ان تلك السياسة فشلت فشلا ذريعا في تحقيق أهدافها، وانه لابد من التفكير والبحث عن أساليب ووسائل وأدوات أخرى للتعامل مع طهران، التي اثبتت التجارب انه من الصعب جدا-ان لم يكن من المستحيل-اخضاعها وتركيعها.
*طبيعة ومستوى الحضور العراقي في المحيط الإقليمي والفضاء الدولي، اذ انه كلما كان ذلك الحضور إيجابيا وبناءا وتفاعليا في توسيع افاق العلاقات ومدّ جسور التواصل، أتاح للعراق اكتساب نقاط قوة تمكنه من فرض بعض من خياراته.
ولان إشكاليات العراق مع الولايات المتحدة الأميركية لاتقتصر على الوجود العسكري، بل ان هناك قضايا وملفات اقتصادية ومالية، من قبيل تحكم بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بأموال العراق وعموم نشاطه الاقتصادي ذي الطابع الخارجي، فإن تفكيك تلك الإشكاليات يتطلب وقتا غير قليل، ويتطلب أدوات ضغط فاعلة لاتترك إدارة ترامب تفعل وتقرر ما تشاء، وكيفما تشاء.
ولعله يخطأ من يعتقد ان ترامب يمكن ان يحقق هدف حل الحشد الشعبي، او حتى نزع سلاح الفصائل المسلحة، التي ربما كان لها دور واضح وملموس في الحرب ضد الكيان الصهيوني، وفي ردع واشنطن ومنعها من القيام بأفعال تتقاطع مع مصلحة وامن البلاد، لان مثل هذه الملفات شائكة ومعقدة، وتحكمها وتؤثرها عليها عوامل وظروف داخلية وخارجية، يتطلب الخوض فيها وقفات طويلة.
عادل الجبوري كاتب وصحافي عراقي