
سمير عادل
وأخيرًا، سدَّد البرلمان العراقي آخر رصاصة في نعش الدولة المدنية في العراق. ومن خلال تمرير “المدوّنة الطائفية” التي مرّرها البرلمان بقدرة قادر وبطريقة جهنمية في ٢٧ آب، أي قبل أكثر من أسبوع، باتت هوية العراق أقرب من أي وقت مضى إلى هوية دينية – طائفية تميّزه عن باقي دول المنطقة. وقد تمكّن، عبر هذه المدوّنة، من انتزاع العراق مما سُمّي بـ”المحيط العربي” ليصبح جزء من محيط الإسلام السياسي الشيعي إلى جانب النظام الإسلامي في إيران.
وبعد عقود من الصراع بين التيار القومي العروبي والتيار القومي المحلي من جهة، والتيارات الإسلامية في المنطقة من جهة أخرى، تسجِّل الأخيرة نقطة لصالحها. فمنذ تأسيس الجمهورية وإنهاء الحكم الملكي في العراق، جرى تشريع أهم قانونين أساسيين لنقل العراق من رحم الإقطاع إلى دولة رأسمالية حديثة ضمن المنظومة الرأسمالية العالمية، وهما: قانون الإصلاح الزراعي وقانون الأحوال الشخصية المعروف بقانون ١٨٨. وكان الصراع مفتوحًا بين رجال الدين الذين التفّ حولهم الإقطاع والطبقات المتهالكة وبين الطبقة البرجوازية الحديثة الصاعدة التي قادها التيار القومي بشقيه العروبي والمحلي. وفي خضم ذلك الصراع، هزم التيار القومي التيارات السياسية اليمينية التي ارتمت تحت مظلة الإمبريالية العالمية التي سادت عليها أجواء الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية. وتمكّن التيار القومي من وضع العراق على سكة الاقتصاد العالمي وإلحاقه بمنظومة السوق الرأسمالية العالمية وحجز للعراق مكانة في تقسيم الإنتاج الرأسمالي العالمي. ولم تفلح التيارات اليمينية التي اصطفّت فيها المرجعية الشيعية التي قادها آنذاك محسن الحكيم وبقايا الإقطاع ورجال الدين السنة في مسعاهم لإعادة العراق إلى الوراء، بالرغم من تقديمهم خدمات جليلة للانقلاب الدموي في شباط ١٩٦٣ الذي تورطت فيه المخابرات المركزية الأمريكية، أسوة بسلسلة انقلابات أخرى في العالم أبرزها: الانقلاب على حكومة مصدق في إيران عام ١٩٥٣، وفي إندونيسيا عام ١٩٦٥، وتشيلي عام ١٩٧١، وانقلابات أخرى في أمريكا الجنوبية وآسيا.
تفتق العقل الجهنمي:
إن العملية الجهنمية التي قام بها البرلمان من أجل تمرير هذه المدوّنة على الجماهير هي عملية فريدة من نوعها، تكشف لنا أن “الحالة الديمقراطية” في العراق حالة ينبغي الاقتداء بها للاستفادة منها! فهذا البرلمان صوّت على تعديل قانون الأحوال الشخصية المذكور دون وجود أي نص قانوني يسمح بالطعن به. وجاءت هذه الفذلكة اللاقانونية بعد الضغط الشعبي، إلى جانب ضغط المؤسسات الحقوقية والدولية، فقام البرلمان بالتصويت على القانون قبل أشهر والذي نُشر في جريدة الوقائع العراقية بعددها ٤٨١٤ باسم قانون رقم (١) والصادر في شهر شباط من هذا العام، ثم طالب مجلس الفتاوى بكتابة مدوّنة خلال ستة أشهر. وعدم إدراج هذه المدوّنة في النص القانوني كان لتفادي الضغوط من جهة، ولمنع إثارة الغضب الجماهيري من جهة أخرى، وللحيلولة دون نقضها أمام المحكمة الفدرالية. وبعد انتهاء مدة الطعن القانونية، وهي شهر واحد، أصبحت هذه المدوّنة خارج المدة القانونية للطعن بها.
لسنا هنا بصدد الحديث عن الجوانب الحقوقية للمرأة في هذا القانون، فقد كتبنا وكُتب الكثير عنها، خصوصًا فيما يتعلّق باغتصاب الأطفال عبر تزويجهن في سن التاسعة، وتعدد الزوجات، والميراث، والحضانة، والطلاق، والعلاقة الحميمة بين الزوجين. بل نريد التطرّق إلى الجانب الاجتماعي والسياسي لتشريع هذه المدوّنة المقيتة التي أُلحقت بها فقرات وأُضيفت إليها بنود لا وجود لها حتى في نصوص الأحوال الشخصية المذهبية، لا السنية ولا الشيعية.
المرجعية وسلطة الأحزاب الشيعية الحالية:
وليس كما يروّج بعض المحللين والمراقبين من أن هذه المدوّنة أو ما يُسمّى بالقانون الجعفري جاءت “رشوة” للمرجعية الشيعية في النجف قدّمتها الأحزاب الإسلامية الشيعية وميليشياتها في البرلمان، التي تسيطر على السلطة في العراق، من أجل كسب ودّ المرجعية التي هُزمت عام ١٩٥٩، وشراء صمتها إزاء الفساد والنهب. فالمرجعية ليست بحاجة إلى رشوة، ولو أرادت إزاحة هؤلاء من السلطة لأصدرت فتوى، كما فعلت عشرات المرات، أبرزها “الشيوعية كفر وإلحاد” بعد إصدار القانونين المذكورين - الإصلاح الزراعي وقانون ١٨٨ - وآخرها “فتوى الجهاد الكفائي” التي شُكّل على أساسها الحشد الشعبي. وكان بإمكانها أن تحسم موقفها إلى جانب الجماهير التي تشكّل الأغلبية الساحقة الرافضة لحكم هذه الأحزاب أيام انتفاضة أكتوبر ٢٠١٩. إلا أنها لم تتجاوز مواقفها الامتعاض الأخلاقي وإسداء النصيحة والنقد السطحي والشكلي كما فعلت مع حكومة عادل عبد المهدي عندما رفعت يدها عنها، وقبلها الابتعاد عن مباركة الولاية الثالثة للمالكي. إذ إن مصالح المرجعية الاستراتيجية تبقى مرتبطة كليًا بسلطة أحزاب الإسلام السياسي الشيعي. والمرجعية الشيعية هي أول من دعمت قائمة ١٦٩ الشيعية في انتخابات ٢٠٠٥ والتي سُمّيت حينها بقائمة الشمعة. وإذا ما تحدّثت بين الفينة والأخرى عن الفساد أو تدخلت في حسم بعض الجدالات السياسية كما فعلت مع عادل عبد المهدي ونوري المالكي، فليس لأنها تتقاطع مع السلطة الشيعية القائمة، بل من أجل احتواء غضب الجماهير التي وصلت نقمتها إلى ذروتها في انتفاضة أكتوبر، والحيلولة دون انفلات عيارها من جديد، وأيضًا لتكون صمّام أمان لاستمرار السلطة الشيعية الحاكمة. وكل من يعوّل على أن المرجعية سترفع يدها عن هذه السلطة وأحزابها وتياراتها يعيش أوهامًا أشبه بالظمآن يبحث عن قطرة ماء، ولا يرى غير السراب الذي يزيّن وجه الصحراء.
إن تمرير هذا القانون بالنسبة للسلطة الحاكمة لا يقل أهمية عن قانون الحشد الشعبي؛ فإذا كان قانون الحشد الشعبي يضمن وجود مؤسسة قمعية تمارس العنف رسميًا ضد معارضي ولادة “الدولة الشيعية”، فإن قانون الأحوال الشخصية يجسّد ويكرّس هوية الدولة التي تحميها ميليشيات الحشد الشعبي.
الدولة الطائفية بحاجة إلى هوية سياسية:
منذ تدمير الدولة العراقية على يد الاحتلال، لم يستطع لا الاحتلال الأمريكي ولا الحكومات التي تلته إعادة تشكيل الدولة أو إضفاء هوية سياسية عليها. حتى العلم العراقي أصبح “خارج الصلاحية” منذ عام ٢٠١٠، وهو أحد أركان الدولة بعد الاحتلال. فبعد خلافات واسعة بين الأحزاب القومية والإسلامية، اتُّفق على العلم الحالي حتى عام ٢٠١٠ على أن يُعاد النظر فيه لاحقًا، لكن الانقسام والصراع على السلطة حالا دون ذلك. إذ إن هوية الدولة نفسها هلامية: ليست قومية، ولا دينية، وإذا كانت دينية فليست سنية ولا شيعية.
ويأتي هذا الحسم في خضم صراع محلي وإقليمي ودولي. فبقدر ما اهتزت أركان هذه الجماعات، أي الأحزاب والميليشيات التي تسيطر على نظام الحكم في العراق، مع وصول الجولاني وجماعته إلى السلطة في سوريا ورفعهم شعارات طائفية في مواجهة الوضع الجديد هناك، ها هم اليوم ينحتون هوية طائفية في العراق، قبل أن يطبع الشرع وجماعته هويتها الطائفية على الدولة في سورية. وتُعتبر هذه الهوية الطائفية التي تبنّاها النظام السياسي الحاكم رصيدًا استراتيجيًا في توازنات القوى، على المدى المنظور، في الصراع على السلطة بالعراق.
استراتيجية نقل الصراع الطائفي إلى الوعي الاجتماعي:
أما على الصعيد الاجتماعي، الذي لا يقل أهمية عن الصعيد السياسي، فإن تشريع هذه المدوّنة، التي تتقطّر تمييزًا جنسيًا وطائفيًا كما تتقطّر العنصرية من العقيدة الفاشية والنازية، يؤسّس لمجتمع قائم على الانقسام الطائفي يسهل التحكم به. فما فشلت فيه القاعدة وجيش المهدي ثم داعش في تحقيقه بعد الغزو، وهو نقل الصراع الطائفي إلى الوعي الاجتماعي في المجتمع كما هو الحال في لبنان على سبيل المثال وليس الحصر، عبر التفجيرات وقتل المدنيين على أساس الهوية، تسعى إليه اليوم سلطة الإسلام السياسي الشيعي عبر هذا القانون المقيت بتحقيقه.
إن المجتمع الذي تسوده الانقسامات العرقية والإثنية والدينية والطائفية والجنسية يصبح من السهل ترويضه من قبل القوى المتصارعة على السلطة، ويشكّل ذخيرة حيّة ووقودًا استراتيجيًا لأي فوضى أمنية أو حرب أهلية لإعادة رسم موازين القوى. وأكثر من ذلك، يمنح القانون الجديد رجال الدين اليد الطولى والشرعية للتدخل في الحياة الشخصية للأفراد. وبعد فشل إدخال رجال الدين من الباب في المحكمة الاتحادية، ها هم يدخلون من الشباك عبر بوابة قانون الأحوال الشخصية. وهكذا يُعاد إنتاج حكم الكنيسة في القرون الوسطى، ولكن هذه المرة بعمائم بدلًا من القلنسوات تحكم العراق، الذي تضرب جذوره في المدنية والحضارة.
الخيار بين الهوية الإنسانية أو العودة إلى البربرية:
وأخيرًا، فإن من يتحدث عن الحرية والديمقراطية في مجتمع يشرّع قوانين التمييز الطائفي والجنسي، إنما يقرّر، بوعي أو بغير وعي، الانضمام إلى النظام الاستبدادي القمعي الذي يُراد ترسيخه في العراق.
إن المدوّنة الطائفية ليست سوى سلسلة من التعليمات أُلحقت بقانون الأحوال الشخصية. ونسفها مرهون بعدم الإذعان لهذه السلطة. وأكثر ما يرعب هذه السلطة الطائفية هو الغضب الجماهيري، ولها تجربة حيّة مع الجماهير في انتفاضة أكتوبر. ومن جهة أخرى، فإن هذه السلطة تسعى لكسب مكانة دولية، وعلى القوى التحررية في العراق أن تعمل بجد، عبر المنظمات الدولية، لفضح طائفية وعنصرية النظام السياسي القائم وعزله عن المجتمع الدولي كما تم عزل الدولة النازية الإسرائيلية عن العالم. كذلك ينبغي أن تخرج الاحتجاجات والتظاهرات أمام السفارات والقنصليات والبعثات العراقية في الخارج لتلعب الدور نفسه. إن إقرار طائفية المجتمع ووصمها كهويّة للدولة في العراق أو الإبقاء على مدنيته وعلمانيته مرهون بميزان القوى.
