
محمد جواد الميالي
حين تتأمل المشهد السياسي العراقي، تدرك أن أكثر ما يُغرق الساحة هو الكلام، وقلّما تجد من يملك برنامجًا يتحدث بلسان الفعل لا بلسان الوعود.
الأحزاب تتفنن في كتابة البرامج كما لو أنها تكتب أناشيد حماسية لا خططًا إصلاحية، فتمتلئ الأوراق بعبارات براقة تُغري القارئ لحظة، لكنها لا تصمد أمام اختبار الواقع ساعة واحدة.
فالكلمة حين تُكتب من أجل الصوت الانتخابي، تموت بانتهاء الحملة، أما حين تُكتب من أجل الوطن، فإنها تعيش كجذرٍ في أرضه.
يبقى السؤال الأهم قبل قراءة أي برنامج انتخابي: لماذا اختصر السيد عمار الحكيم رؤيته بأربع أسس فقط؟
أهو تقليل للكلمات؟ أم أنه تعمّد أن يُلخّص تعقيد المشهد العراقي في معادلة بسيطة تُفهم بالعقل قبل أن تُقرأ بالعين؟
أو ربما أراد أن يبتعد عن الإسهاب الذي ملّته الجماهير، وأن يكتب برنامجًا لا يُعلّق على الجدران، بل يُترجم في الميدان.
كأنه أراد أن يقول: لا تُقاس البرامج بعدد صفحاتها، بل بعمق ما تلامسه من واقع الناس وتحديات الدولة.
أهم هذه الأسس كان حديثه عن الاستقرار في العراق، بأنه ليس ترفًا سياسيًا، بل حكاية زمنٍ من الألم.
كم من بيتٍ تهدّم، وكم من طفلٍ تيتم، وكم من أمٍّ ودّعت أبناءها على أبواب الجوامع والمواكب والحسينيات أيام المفخخات والإرهاب وداعش.
لكن الشيعة كانوا ــ المكوّن الأكبر ــ سدًّا منيعًا بوجه الفوضى حين أراد العالم إسقاط الدولة، فصمدوا وقدموا التضحيات حتى بقيت راية العراق مرفوعة.
ومع ذلك، فإن الحكيم يدرك أن الاستقرار لا يُبنى على الدم وحده، بل على الوعي السياسي الذي يعصم البلاد من التناحر الداخلي، وأن السلاح لا يصنع دولة، بل يُؤمّن طريقها نحو السياسة الرشيدة.
لذلك جعل من الاستقرار أولى ركائز برنامجه، لأن لا إصلاح يُثمر إن لم يكن في أرضٍ آمنة.
أما الإصلاح الاقتصادي والمالي، فالحكيم يعلم كم من دولةٍ انهارت حين ربطت مصيرها بسوق النفط!
وحين هبطت الأسعار، هبطت معها أحلام الناس، وأصبح الرخاء مرهونًا ببرميلٍ لا تملك الدولة زمام سعره، فغرقت عملتها في بحر البترول كما حدث في فنزويلا.
الحكيم يقرأ هذا الخطر بعين الواقعي لا بعين المتشائم، فيدعو إلى إصلاحٍ اقتصاديٍّ يُحرّر الدولة من عبودية المورد الواحد.
الإنتاج، والزراعة، والصناعة، والاستثمار، هي مفاتيح السيادة الحقيقية، ومن دونها ستظل الدولة تعيش على حافة الانهيار في كل أزمة مالية.
بهذا الطرح، يضع الحكيم إصبعه على الجرح، محذرًا من أن الاقتصاد الذي لا يقوم على التنوع، كبيتٍ من ورقٍ أمام عاصفة النفط.
الحكيم يدرك أن المواطن لا يشعر بوجود الدولة إلا حين يسير على طريقٍ مبلط، ويشرب ماءً نظيفًا، ويدخل مدرسةً تليق بطفله.
فالبُنى التحتية ليست مجرد خرسانة وحديد، بل هي كرامة الإنسان اليومية.
وحين تنهض هذه البُنى، ينهض معها الاقتصاد، لأن المستثمر الأجنبي لا يأتي إلى بلدٍ تغرق شوارعه في “الطسات”، ولا يزرع مشروعه في أرضٍ لا كهرباء فيها ولا استقرار خدمي.
أراد الحكيم أن يربط التنمية بحياة المواطن، لا بخططٍ على الورق، فكل مشروعٍ يُقام في خدمة الناس هو مشروعٌ يعيد الثقة بين المواطن ودولته.
أخيرًا، في زمنٍ تشتعل فيه صراعات الأقطاب بين الشرق والغرب، لم تعد الدول قادرة على العيش بمعزلٍ عن العالم.
العراق اليوم في قلب التوازنات الدولية، وكل قرارٍ يُتخذ داخله يتردد صداه في الخارج، لذلك طرح الحكيم مبدأ التحالفات المتوازنة، لا الانحياز لهذا الطرف أو ذاك.
دعا إلى الحياد الإيجابي الذي يجعل العراق جسرًا للحوار لا ساحةً للصراع، فالقوة ليست في الاصطفاف، بل في القدرة على الحفاظ على السيادة وسط العواصف البالستية.
وهذا فهمٌ فلسفيٌّ عميق، يجعل من العراق لاعبًا لا ورقةً تُلعَب.
حين تعي هذه الأسس الأربع، تدرك أن سماحة السيد لم يكن يكتب برنامجًا انتخابيًا بقدر ما كان يكتب فلسفة دولة.
أربع كلماتٍ مفاتيح تختصر فيها آلام الماضي وآمال المستقبل: استقرار، إصلاح، بناء، وتوازن.
هي معادلة الفيلسوف الذي لا يهوى التنظير، بل يسعى لتوليد فكرةٍ من رحم الواقع، وكأنه أعاد إحياء مدرسة أثينا السياسية في قلب بغداد.
