"لا شيء يربط بين مددنا و ولاياتنا إلا طرق طويلة، ضعيفة شحيحة و خالية من مقومات المدنية المريحة نهارا، و مظلمة، موحشة و خطيرة ليلا، الأمر الذي حدا بعديد المنظمات الدولية و بالمجموعة الأوروبية إلى تصنيفها ضمن أخطر طرق العالم ارتيادا حتى نهوا بمذكرات عملية موظفيهم بل و حرموا عليهم ارتيادها ليلا".
إن لظاهرة نشأة المدن التاريخية الموريتانية كغيرها من مدن العالم العريقة بواعث سياسية أولا، و اقتصادية ثانيا و اجتماعية ثالثا، باعتبارها البواعث الرئيسية عند كل تأسيس: و إذا كان الباعث السياسي قد اقترن خلال تأسيس هذه المدن عبر مراحل التاريخ بقيام الكيانات التي أسست لنشأتها، فإن كل دولة تنشأ أو تقوم لابد أن تتخد لها عند ذاك مراكز للحكم، أو مقرا للقائد أو الأمير أو السلطان او الإمبراطور، أو دار للخلافة أو عاصمة للدولة أو غيرها من الأسماء و العناوين و ذلك لعدة اعتبارات منها إعطاء الدولة الناشئة صور جليلة مهيبة في نفوس الناس و عقولهم، بما يقام في المدينة من منشات عمرانية عالية، و أسوار حصينة منيعة ، ومرافق عامة تشهد بعزة الدولة و جدارتها و اقتدارها الكبير على النمو و الثبات و مواصلة المشوار . و من الأسباب و الدوافع كذلك شد أنظار الشعوب إلى عواصم حكمها، و إشعارها بالتبعية النفسية و السياسية لها، تتلقى عنها القرارات و القوانين، و تصدر عن إيحائها، و تسير وفق سياستها، و بمرور الأيام تصير المدينة العاصمة رمزا للدولة، تحمل طابعها، و تكتسي حلتها، فتكون قلب الوطن النابض، ورئته الحية، و شرايينه المتدفقة ببواعث الحياة. و من ثم يكون المواطنون في هذه الدولة ينظرون إلى مركز الحكم، على انه القاعدة العتيدة، التي لا يتصور جهاز للحكم دونها. ولهذا ارتقت العواصم في نظر الشعوب التابعة لها، إلى مقام الزعامة السياسية، بالنسبة إلى بقية تراب الوطن .و متى ما استتب الأمر و تجلت المنعة في الاستواء تبدأ عملية ارتباطها العضوي بالمدن الأخرى في تقاسم لكل معالم النهضة و تجليات المنعة و وسائل الترابط و الالتحام فيما بينها، فتمتد الطرق المعبدة في انسيابية لا تعرف التوقف في كل الاتجاهات، و يتبع ذلك ما يكون من حركة القاطرات على سكة حديد متشابكة المحطات و محكمة التبادلات حتى لم يعد المواطن يفصل بين مدينة إلا بالتمايز في الطابع العام عبر التكامل الذي يلغي العزلة و يدحض صفة الاستكفائية السلبية المنغلقة التي تصل غالبا إلى مرحلة معاقبة المجموعات المنغلقة أو المغلقة تصوغها من داخلها عوامل مضرة بفعل الأفرادrégime d’autarcie négative et punitive.
و إذ الأمر كذلك في كل دول العالم و منها التي في الجوار فإنه لا شيء البتة يربط بين مدن هذه البلاد من المشتركات الثابتة ناهيك عن الذي هو عام من التاريخ المشترك المذبذب حيز لم يصف بعد من الأذهان شتاته بين الإمارات المتناقضة و المشيخات المتنافسة و تنافر الاختالافات الثقافية و اللغة الواحدة التي تفصل كل الولايات عن بعضها أو على الأصح كل مدينة عن الأخرى من اختلاف شحنة و معنى المفردة و بلوغ المقاصد و تقريب المضامين و أخريات تحملن لب التنافر و والتباعد و الانشطار. و لا شيء يربط واحدة بأخرى اللهم الخط الذي يدعى لفظا طريقا بتعرجاته و طول مسافته و تباعد أوصاله. إنه لا أعمدة و أسلاك الطاقة الكهربائية تصل بين المدن و لا شبكات مياه تربطها بالأنابيب سقيا و مدا بمقوم الحياة الأول. كل ولاية بل كل مدينة هي منفرة بالذي فيها تنضح.
إن المسافر من عاصمتي البلد السياسية إلى المدينة الاقتصادية الأولى ليحس و هو يعبر المهمهة التي تفصل بينهما لا بد أن يحس بوحشة الخلاء تحت وطأة غياب الماء و أزيز الرياح الذي لا ينقطع و الظلام إذا جن الليل و كأنه لم يربط صلة بالمدنية تمده بحيويتها إلى مقصده. و ليس الذي سلك الطريق الربط بين العاصمة و مدينة المناجم "أكجوجت" و منها إلى عاصمة التمر "التمر" و المهرجانات لقهر قساوة الطبيعة باتجاه "شنقيط" و "ودان" التاريخيتية ثم إلى مدينة أطول قطار في العالم "ازويرات" بأوفر حظ في مناظر حية بالماء و مضاءة بالكهرباء. كما أن الذي يسلك الطريق إلى الشرق باتجاه مدن "ولاتة" و "تشيت" العريقتين أو بتجاه ضفة النهر في "لبراكنة" و "كوركول" بأوفر حظ من الإنارة و سبرا للأراضي الخضر. و أما المُيمم وجههم صوب ضفة النهر في الحدود مع "السنغال" فلا غرابة أن يتوخ الحذر ليلا لظلام الممر و عدم جاهزيته للسرعة الوسطى و لا عجب أن لا يرى الأرض تنجلي عن منظر خلاب لعدم نفاذ الماء إليها من أنابيب "آفطوط" الساحلي التي تسقي العاصمة لسببين جوهرين غير محمودين، أولهما ضعف أداء سياسة و توزيع المياه و تعثر التنمية الزراعية من ناحية، و عزوف المواطنين عن العمل و الإنتاج و منه الزراعي الذي تصلح الأراضي الشاسعة الوقعة بين مدينتين حيويتين، متقاربتين نسبيا و آهلتين باليد العاملة الشابة من جهة أخرى.