إن المعايير التي تقاس بها الأشياء عادتاً ما تكون نسبية , من شخص إلى أخر ومن مجتمع إلى مجتمع ثان , وذالك ناشئ من الاختلاف في وضع التعاريف وطريقة ترجمتها على ارض الواقع , وهذا يعود بدوره لجملة من المقدمات ,التي ابتنيت عليها النشأة الفكرية للمجتمعات ,ومغذياتها الثقافية والعقدية على حدٍ سواء, باستثناء القواعد العقلية , النابعة من العقل والوجدان , كاستحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما مثلا(على تفصيل) , وغيرها من المسلمات , المتعلقة بالموضوع والمحمول.
الثقافة واحدة من تلك المفاهيم ,التي اختلف بمعناها ,وبتعريفها تعريفا جامعا مانعا الكثير من المفكرين وأصحاب الرأي والاختصاص ,حيث يصعب تحديد تعريفها وإطار خاص بها ,لكثرة ما طرح من تصورات وتراجم لهذا المفهوم ,( للمزيد مراجعة كتاب مشكلة الثقافة لمالك بن نبي) , ألا أنها وبشكل عام , ودون إن الخوض بتفاصيل المفهوم وجزئياته , فإنها لا تخرج من كونها _المثقف_ هو صاحب الفكر المستنير, والذوق المهذب ,الذي يرى الأشياء بعين خارقة للأطر الضيقة التي أحيطت به ,مدركا للحقيقة والواقع ومعطياته ومتطلباته الزمكانية , القائمة على أساس العقل ,والمنطق والتعقل.
إن ما لفت انتباهي ودفعني لكتابة هذه الأسطر المتواضعة , هو ذالك التلازم المثير للجدل و الغير منطقي مابين الثقافة والتعليم أو المتعلم ,التلازم الذي اخذ بالتنامي , واعتقدهُ الكثير من العامة , وجعلوا بينهما رابطاً لا يمكن له الانفكاك , لا فرق بين المتعلم منهم وغيره , حيث إنهم اخذوا يقيسون عليه بنية المجتمع والفرد ويدرجون تحت عنوانه الكثير من المسميات والشخوص ,فأصبح لزاماً علينا فك هذا الارتباط الذي يعد انتهاكاً صارخا بحق الثقافة وقدسيتها , فليس كل مثقف متعلم , وليس كل متعلم مثقف.. ونقصد بالمتعلم هنا , هو كل من استطاع إكمال دراسته الأكاديمية وتدرج في مراحلها .
نعم ربما يكون المتعلم الذي اشرنا إلى تعريفه, هو اقرب ليكون مثقفاً من غيره, لما اعتاده في مراحل دراسته من القراءة والمتابعة للمواد والمناهج التي قد فرضت عليه , والتي لم تضف إليه شيء خارج الاختصاص , فهو مثقف في اختصاصه وعارف بجزئياته, بنطاق ضيق وليس بالمفهوم العام للثقافة , هذا آذ ما كان جاداً في تحصيل المعارف والعلوم التي تلقى عليه , لا من اجل إسقاط فرض وعبور مرحلة إلى مرحلة أخرى ,فلقد وصف الدكتور (علي الوردي ) المتعلم وصفا دقيقاً في كتابه شخصية الفرد العراقي إذ قال "المتعلم هو من تعلم أمورا لم تخرج عن نطاق إطاره الفكري الذي اعتاد عليه منذ الصغر ,فهو لم يزداد من العلم إلا ما ازداد في تعصبه وضيق في مجال نظره ,فهو قد أمن برأي من الآراء أو مذهب من المذاهب , فاخذ يسعى وراء المعلومات التي تؤيده في رأيه وتحرضه على الكفاح في سبيله ". أراد إن يشير (الوردي ) هنا إن انغلاق المنظومة الفكري لدى بعض المتعلمين ,والتي أحاطت بهم دون رغبة منهم إليها , كانت نتيجة حتمية بسبب سلوكيات وعادات ومناهج أمليت عليهم و أوحى أليهم بِها, حتى أصبحت عند البعض منهم جزء من تركيبته الساكيولوجية , فكانت حائلاً دون النضج والانفتاح الفكري .
الثقافة ملكة تحط رحالها أينما وجدت الأرض الخصبة لها , وأينما وجَدت من ينميها ويغذيها , ,وينصاع لأوامرها ونواهيها , ويخضع لها,لا فرق بين المتعلم وغيره , لتروضه لا هو يروضها ويلوي عنقها وفق رغباته وانفعالاته النفسية , وينجر إلى باحتها الواسعة منقاداً إليها , لتفضي إليه محاسنها و كمالاتها الروحية والفكرية , فيمتاز حينئذ بمرونة الرأي والانفتاح , لا التمحور حول وجهة واحدة , فيكون ذو قدرة عالية في تحمل أراء غيره , المخالفة لرأيه , حتى انه يكاد إن لا يطمأن لرأيه , لما له – المثقف - من أفق واسع , ومدركات ومعايير فكرية غير ثابتة , لا ما خلا من القواعد العقلية والمنطقية, فلهذا تجده على استعداد دائم لتلقي كل ما هو جديد والتأمل فيه والبحث عن وجه الصواب منه, فهي ليست حكرا على شخص دون غيره , وهنا يفترق المثقف عن المتعلم الذي لصق نفسه بالثقافة دون وجه حق , فلا بد لنا إن نميز ما بين الاثنين وان نضع محددات لكلاٍ منها ,و حتى لا نقع في المغالطة من حيث لا نشعر , علينا نضم أفكارنا و أعادة صياغتها بالشكل الذي يتناسب ومدركاتنا العقلية المجردة من العوامل الخارجية المؤثرة بكل أشكالها , فالثقافة لا تعني الأفكار فحسب , وإنما تضم أشياء اعم من ذالك بكثير ,فهي تؤسس للمعايير الأخلاقية والاجتماعية , والمادية؛ فتعزز أحكامهم وتوسع أفقهم نحو عوالم رحبة ,سلوكيات وأخلاقيات وممارسات اجتماعية شتى, لقد وصل العالم اليوم إلى مرحلة لا يمكن له إن يحل مشاكله إلا على أساس الثقافة ونضم الأفكار وفق مقتضيات العقل والمنطق [email protected]
وفي الختام وقبل السلام
أقول :ما أحوجنا اليوم لنكون متعلمين مثقفين , وما أجمل إن يكون المثقفين متعلمين . ... لكن ما أكثر المتعلمين واقل المثقفين ..