في ظل غياب التماسك الديني والفكري والعقائدي وموجة الصراعات الضارية والهمجية التي تجتاح العالم الإسلامي والعالم بأسره تأتي بها عصابات طاغية باسم الدين والعقيدة الإسلامية فتأتي هناك ضرورة الالتفاف حول مرجعية علمية دينية تتميز بالفاعلية وانتهاج نهج علمي وعقلانيينقذالمجتمع الإسلامي من هذا التمزق الفكري والتشتت العقائدي الناجمة عن ظهور الدعاة الأدعياء المزيفين وهيمنتهم على عقول الجماعات البشرية التي تفتقر إلى مرجعية دينية علمية تلم شملها وتوحد كلمتها وتهديها إلى سبيل الرشاد.
وانطلاقا من أن الأغلبية الساحقة للمسلمين في العالم تتكون من أهل السنة والجماعة فالحديث هنايدور حولجماعة السنة ومرجعيتها العلمية الدينية بوصفها تحمل على عاتقها مهام الزعامة الدينية والفكرية للعالم الإسلامي. أما السؤال الذي يطرح نفسه قبل كل شىء هو "أين مكانة المرجعية الدينية في العالم الإسلامي واين موقفها من الأحداث والتحولات التي تمر بالمجتمع الإسلامي؟"
لاينكر أن هناك رجال دين حقيقيين يخدمون الشريعة الإسلامية ويسعون وراء تحقيق مصالح المسلمين ولكن بطبيعة الحال يضيق عليهم نظام السلطة إذا تكلموا عن أشياء تضر مصالح الحكومة ولو كانت في مصلحة المجتمع والأمة. فهؤلاء دوما يواجهون عنفا وتهميشا وتضييقا من السلطة بحيث لايسمع لهم صوت في المجتمع ولا تعطى لهم المنابر كما شاهدنا أكيالا من اتهامات وإساءات لأصحاب القول السديد في بعض البلدان الإسلامية وأخيرا كم الأفواه وإعتقالات وإقامات جبرية تفرض عليهم من قبل الحكومات التي تمارس سيطرتها تحت غطاء تحقيق مصالح البلاد وإرساء الأمن والسلام.
ونعود إلى الحديث عن المرجعية العلمية الدينية في العالم الإسلامي؛ فمنذ أزمان كانت للأزهر الشريف مكانتها وتأثيرها ودورها الفاعل في شؤون المجتمع المصري بل العالم الإسلامي بأسره بحيث كانت رائدة في المجالات الدينية والعملية وأيضا كانت لها موقف ودور مميزان في ما يتعلق بالأحداث والتحولات التي كانت تمر بالوطن العربي. ولكن قانونا في الطبيعة لايتغير وهو "لكل شىء إذا ما تم نقصان" فتغيرت الأحوال وانقلب الحال وتراجعت مكانة الأزهر وفقدت دورها المميز وتأثيرها الحاسم عقب أحداث جرت في المجتمع المصري بما فيها المناحرات السياسية والصراعات الطائفية والعقائدية التي سببت بدورها تراجع مصر عن مكانتها المرموقة في العالم العربي.
ومن ناحية أخرى خابت الآمال المعقودة في الزعامة الدينية السعودية بعدما شهدت المملكة انقلابات سياسية وتحولات اجتماعية وإصلاحات حكومية هدفها الوحيد هو توطيد السلطة في الدولة والمجتمع. فكان موقف رجال الدين من كل هذه التغيرات موقف تبعية ومطاوعة الأمر الذي أثبت للجميع عدم استقلالية المرجعية العلمية الدينية في المملكة وبالتالي عدم أهليتها للنهوض بعبء زعامة الفكر الإسلامي الرائد في الوطن العربي.
فوسط هذه الحالة المتأزمة التي تعيشها العالم الإسلامي من افتقاره إلى مرجعية حقيقية مستقلة وغير تابعة لسلطة الحكومات وأوامر السلطات، تتوارد الأنباء والتكهنات عن إمكانية عودة الزعامة الدينية الفكرية إلى تونس وجامعة الزيتونة التونسية بوصفها أقدم مؤسسة إسلامية كان لها في يوم من الأيام دور ريادي بارز في نشر العلوم وتعاليم الشريعة الإسلامية.
والحق يقال أن الزيتونة كانت ولاتزال رائدة في مجال الفكر والثقافة الإسلامية بما أنها حافظت على إستقلاليتها في نشاطاتها العلمية والثقافية ويكفيها من المشاهير الكبار، العالم العبقري ابن خلدون الذي يعتبر مؤسس علم الاجتماع وهو أب لعلم العمران البشري يعرفه القاصي قبل الداني فحان الدور لهذه الجامعة العريقة الجذور كي تتمتع بالمكانة التي تستحقها في مجال الزعامة العلمية والفكرية والدينية للعالم الإسلامي.
فنظرا لأصالتها ونشاطاتهاالعلمية والفاعلية التي أثبتتها الزيتونة يبدو أن البوصلة قد تدور بهدوء نحوها وأنظار العالم الإسلامي تتجه إلى تونس حيث يتوقع أن تصبح هذا البلد في مستقبل قريب مقصدا للعلماء والمفكرين الإسلاميين وملجأ يؤمه المسلمون من كل أنحاء الوطن العربي.
وقبل أيام أكد رئيس جامعة الزيتونة هذه الحقيقة وصرح بأن هذه الجامعة تتميز بالسماحة والفكر المستنير والحوار الإسلامي المتحضر ومستعدة لكي تتحول إلى مرجعية للعلوم الدينية ومنارا للثقافة الإسلامية ومن المتوقع أن نكون في السنوات الأخيرة مستقبلين لوفود العلماء وأصحاب الفكر والثقافة الإسلاميين إلى تونس.
وأعرب عن أسفه بأن الدعاة والشخصيات الدينية في كثير من الدول الإسلامية تربطهم علاقات تبعية إلى السلطة ويتزلفون للسادة السياسيين ويتحدثون كما يحلو لأصحاب السمو الملوك والأمراء في بلادهم، الأمر الذي جعل الدين آلة بيد أصحاب السلطة تعرض المجتمع الإسلامي لخطر الانهيار الأخلاقي وتؤدي إلى تضعيف مكانة الدين ودور التعاليم الإسلامية في إصلاح المجتمع.
وفي إشارة واضحة –من دون أن يصرح- إلى السياسات السعودية الأخيرة التي تمارس بأمر من ولي عهد المملكة، هجم الدكتور قريسة على المخططات العلمانية التي تنفذ في بعض البلدان الإسلامية بما فيها الترويج المباشر وغيرالمباشر للسفور واختلاط النساء بالرجال وسماع صوت المغنيات وتحويل مناطق من البلاد الإسلامية إلى مناطق سياحية حرة مما تسرع وتيرة العلمنة وتعرض بلدا إسلاميا لخطر الإنهيار الأخلاقي وضياع الهوية العربية الإسلامية.
وأشار رئيس جامعة الزيتونة إلى السياسات العلمانية المناهضة للدين الإسلامي التي تنتهجها بعض البلدان الإسلامية من أجل توطيد سلطتهم وانتقد موقف العلماء ورجال الدين المتفرجين أمام هذه الاحداث التي تكبد المجتمع الإسلامي خسائر فادحة وستظهر أعراضها في مستقبل قريب على الأمة الإسلامية وتجعل مصير البلدان الإسلامية كمصير الأندلس.
فكما يبدو من قراءة مجرى الأحداث من المتوقع قريبا أن يطلع نجم الزيتونة التونسية مرة أخرى بعدما كان قد غاب لعقود وسنين في حين أن المؤسسات العلمية الدينية في البلدان الإسلامية الأخرى تبدأ الأفول.
يامن صفوان كاتب صحفي