تتميز المجتمعات البشرية بكونها مؤلفة من حالة أشبه ما تكون بالانتظام
(الحركي- الثابت), أي أن تكون البيئة المجتمعية البشرية, متجسدة بوجود
منظومة قيم وعادات وتقاليد, ممزوجة بعقلانية خصّها الله تعالى للإنسان,
فيكون هذا النسق ثابتاً طالما بقي الوجود البشري منذ بداية الخليقة وإلى
يومنا هذا؛ أما الجانب المتغير والحركي منه, فهو ما يكون من خلال تفاعل
العادات والتقاليد والأفكار, وتجددها وتغيرها بحسب مؤثرات الظروف التي
تعيشها أية مجموعة, فتتكون فيها أنماط مختلفة من مجموعة إلى أخرى, ومن
أعراف محددة, إلى أخرى.
مثلت قضية العنف ضد المرأة خلال التأريخ, ثابتا من ثوابت الجهل البشري
الذي تبنى النظر إلى المرأة نظرة دونية باعتبارها تمثل العنصر الخاضع
للهيمنة الذكورية المطلقة؛ من هذا المنطلق, تعددت التوصيفات التي كانت
تحاول أن تبرر هذا العنف الممارس ضدها, فمنهم من يراها ناقصة العقل, لذا
فالعنف هو علاجها الناجع لتصحيح أنماط تبعيتها للرجل, ومنهم من كان ينظر
إليها باعتبارها شرّ يحوي في ثناياه ضعف الإرادة الأخلاقية إن أطلق لها
العنان! ومنهم من كان ينظر إليها باعتبارها نفس غير مستقرة ولا يمكن لها
بالتالي أن تحوي أدوات تحصيل الحكمة! وغير هذه التوصيفات الكثيرة التي
طفح العقل البشري بها.
إن تناول موضوعة المرأة ككائن وعنصر وجودي مهم للمجتمعات, يقودنا إلى
تحليل وتفكيك فكرة المرأة, فمتابعة ودراسة دور المرأة الحقيقي الذي يتجسد
في جوهره الأساس بتكوين اللبنات السلوكية والأخلاقية الأساسية للمجتمعات,
يكون من خلال معرفة دورها الأساسي المشابه لدق المسامير التربوية الأولى
التي تشكل صندوق الشخصية البشرية, والتي تتمثل عادة بالأطفال او الأخوة,
أي أن دورها هنا هو دور ريادي في تكوين المجتمعات, لذا ومن خلال قياس مدى
ما تملكه الشريحة النسوية من وعي وثقافة وتربية أخلاقية عالية, نستطيع
تبعا لها ان نقيس شكل ونمط الأجيال اللاحقة التي ستنتجها تلك المجتمعات .
إن خصائص الجنس البشري وصفاته ومصيره هي حاصل علاقة الرجل بالمرأة
وشراكتهما الإجتماعية, حيث تتأسس عليها جميع العلاقات الضرورية الأخرى,
لذا فتحقيق المرأة لذاتها إنما يكون من خلال نجاحها في مشروعها الإلهي
الأول والأهم, وهو إنتاجها لجيل واعي, أي ان استمرار (الوجود المجتمعي)
للبشرية, يعتمد بالأساس على دور المرأة الأول في البيت! لأنها تمثل
المنبع الرئيسي لتصدير أدوات المجتمع القيمية والأخلاقية والسلوكية؛ لذا
فإن العنف الممارس ضد المرأة في البيت بالدرجة الأولى إنما يمثل حالة
إخلال في توازن العطاء التربوي الذي من المفترض أن تقدمه المرأة للجيل
القادم.
تكمُن خطورة العنف الأسري ضد المرأة, بأنه ليس كغيره من أشكال العنف
ذات النتائج المباشرة، بل إنّ نتائجه غير المُباشرة المُترتبة على علاقات
القوة غير المتكافئة داخل الأسرة وفي المجتمع بصفة عامة، غالبًا ما
تُحدِث خللاً في نسق القيم، واهتزازًا في نمط الشخصية، خاصة إذا ما عضدها
ما يحمله اللاوعي المجتمعي الجمعي من نظرة تؤمن بضرورة أن يكون العنف ضد
المرأة إحدى الأدوات السلوكية المتاحة للحصول على نتائج إيجابية! حتى
تحول إلى طبيعة بشرية تسندها الأعراف الاجتماعية.
لم تقتصر سلبيات العنف ضد المرأة بما ذُكرَ أعلاه, إنما يقود في
حالاته المتطورة إلى حصول كسر بمفهوم السمات الأنثوية حتى عند نفس الرجل,
فنظرة الرجل لأنوثة المرأة التي يمارس بحقها العنف دوما, ستكون نظرة
سلبية تفتقر لكل عناصر التفاعل الفطرية, التي جعلها الله خصيصة من خصائص
أنوثة المرأة في قلب الرجل وعقله, وهذا ما يقود في كثير من الحالات إلى
أن تفقد المرأة ثقتها بنفسها كزوجة أو كمربية أو كأخت, وهذا يقود
بالنتيجة للتأسيس لأساس خراب نواة العائلة.
إن مما يؤسف له هو أن أغلب الإجراءات العلاجية أو الردعية التي تتبعها
الجهات والمؤسسات المسئولة في المجتمع, من أجل مكافحة هذه الحالة, إنما
تقتصر على حالات التوعية الأحادية الجانب, وأقصد الاكتفاء بتوجيه اللوم
والتقريع للرجل؛ المشكلة ثنائية الطرف, المرأة تحتاج إلى توعية وتثقيف,
تحتاج لتمكينها ضمن أطر تضمن لها عفتها وأخلاقها التربوية والدينية,
نحتاج لإتباع أساليب تربوية تساهم في تشكيل شخصية أخلاقية قوية لديها,
حتى يتكون مجتمع قوي من خلالها, يتربى أولاده في المستقبل على احترام
المرأة وعدم ممارسة العنف ضدها, ليتكون جيل مستقبلي يؤمن بنبذ العنف ضد
المرأة, من خلال إخضاعه لتربية صحيحة على يد نساء تمت صياغة شخصياتهن
بشكل أخلاقي وتثقيفي ممنهج.
*دكتوراه في النظرية السياسية- المدرسة السلوكية الأمريكية في السياسة.
د.محمد أبو النواعير*