انتهى الزمن الذي كان فيه قطاع غزة نهباً للعدو، وأرضاً مستباحة له، وميداناً يعبث فيه كيف يشاء، ويعيث فيه فساداً حيث يريد، يجتاح ويغير، ويخطف ويأسر، ويقتل ويغتال، ويهدم ويخرب، وينسف ويدمر، ويقلع ويحرق، ويطرد ويُرحِّلُ، ويغتصب ويصادر، ويزرع العبوات وينصب الشبكات، ويبث العيون ويشغل العملاء، إذ لم تعد أسوار غزة واطئة يتسلقها، وحدوده سائبة يتسلل منها، وشوارعه آمنةً يتحرك فيها جنوده، وتتنقل فيها دورياته، وتنفذ فيها مجموعاته الأمنية عملياتها بكل سهولةٍ ويسرٍ، تدخل إليه وقتما أرادت وتنسحب منه بهدوءٍ إذا شاءت، وكأنها في مهمةٍ اعتيادية لا يكتنفها الخطر ولا تعتريها المغامرة.
أياً تكن هوية المشتبهين الثلاثة الذين دخلوا إلى منسق الأمم المتحدة لعملية السلام غرب مدينة غزة، فقد يكونون إيطاليين فعلاً، ويعملون في السفارة الإيطالية لدى الكيان الصهيوني، وأنهم كانوا في مهمةٍ رسميةٍ بتكليفٍ من سفارة بلادهم، وأن السفير الإيطالي قد حضر شخصياً إلى مدينة غزة لمتابعة قضيتهم وضمان الإفراج عنهم، وعدم التعرض لهم بسوءٍ أو أذى، وقد تضمن الأجهزة الأمنية الفلسطينية للسفارة الإيطالية سلامتهم، وتتكفل بعودتهم، شرط أن تتثبت الأجهزة الأمنية من هوياتهم، وتتعرف على شخصياتهم، وتتأكد من سلامة نيتهم وعدم تورطهم في أي عملٍ مشبوهٍ أو مدانٍ، على أن يتعاون المشتبه بهم مع الأجهزة الأمنية، ويفسروا بمنطقيةٍ وعقلٍ مهمتهم في القطاع، وأسباب وجودهم فيه.
أثبتت الأجهزة الأمنية الفلسطينية أنها جاهزة وحاضرة، وأنها يقظة وواعية، وأنها تتابع وتراقب، وتدقق وتتفحص، وأنه ليس من السهب التغرير بها أو الاستخفاف بقدراتها، فقد لاحظت سيارة المشتبهين الثلاثة، وانتبهت إلى الأسلحة الأوتوماتيكية التي يحملونها، ولاحقتها بقوةٍ وسرعةٍ عندما لاذت بالفرار بعد أن رفض سائق السيارة التوقف عند الحاجز الأمني، وتعاون المواطنون الفلسطينيون مع الأجهزة الأمنية، وسهلوا لها مهمة ملاحقة سيارة المشتبه فيهم، وقدم شهود العيان للجهات الرسمية كافة المعلومات التي يملكونها، والملاحظات التي انتبهوا لها ولفتت أنظارهم، بما يؤكد على وعي الجمهور الفلسطيني وإدراكه للحرب الأمنية الخطرة الدائرة مع المخابرات الإسرائيلية.
تأتي هذه الحادثة التي قد لا تكون لها أية ذيولٍ أمنية، تماماً بعد عملية حد السيف الأمنية الإسرائيلية الفاشلة، والتي كان للشعب والمقاومة دورٌ كبيرٌ في إفشالها، الذين يشكلان مع الأجهزة الأمنية ثلاثية ماسيةً نفخر بها ونعتز، وقد يكون العناصر الثلاثة من التابعية الإيطالية وليس لهم علاقة بالمخابرات الإسرائيلية، التي دأبت على استخدام جوازات سفر دولٍ أخرى في تنفيذ مهامها، إلا أن الطريقة التي تعاملت بها المقاومة الفلسطينية من خلال أجهزتها الأمنية المختصة، تؤكد للعدو الإسرائيلي أن أرضناً لم تعد رخوة، وأن مهماته الأمنية فيها ليست سهلة، وأن ما حدث لهؤلاء الثلاثة هو نفسه الذي سيحدث مع غيرهم، ولن تكون قوى المقاومة مرنةً في التعامل مع المشبوهين أياً كانت هويتهم أو مهمتهم.
قد تنجح المخابرات الإسرائيلية في تنفيذ بعض العمليات الأمنية داخل القطاع، ولكنها لن تتمكن أبداً من الانسحاب أو الإفلات من العقاب، كما حدث مع قتلة القائد القسامي مازن الفقهاء، إذ نجحت كتائب الشهيد عز الدين القسام في تفكيك شيفرة العملية، والوصول إلى كل أدواتها القذرة، التي خططت وراقبت وساندت ونفذت، قبل أن تنفذ حكم الإعدام في المتورطين عملياً منهم، وقد تمت عملية الكشف والعقاب بسرعةٍ كبيرةٍ ووقتٍ قياسي، لتكون درساً لكل من تسول له نفسه السقوط في أوحال العمالة.
استطاعت أجهزة الأمن الفلسطينية فعلياً تفكيك شبكات العملاء وقوضت أوكار التجسس، وحاربت أسباب السقوط وعالجت ظواهره، ولم تعد للعدو في قطاعنا خلايا نشطة ولا نائمة، إذ تتعقبهم الأجهزة الأمنية وتقضي عليهم مبكراً، أو تمد لبعضهم أيديها بالمساعدة بقصد التوبة الصادقة والإنابة الحقة، الأمر الذي جفف منابع العمالة لدى المخابرات الإسرائيلية في قطاع غزة، وأعياها العمل فيه، فعميت عيونها، وقطعت أيديها، وأصبحت عاجزة عن أي فعلٍ أمني سواء مباشر على أيدي وحداتها الأمنية، أو من خلال عملائها اليائسين المندسين بخبثٍ في صفوف شعبنا.
قد يكون العدو قادراً على قصف القطاع بطيرانه ودباباته، وقد يستطيع اغتيال وتصفية قادة وعناصر المقاومة من الجو، إذ يتفوق على المقاومة في ذلك، وقد سبق له أن قتل العشرات من كوادر المقاومة بهذه الطريقة، ولكنه يدرك تماماً أن عملياته كلها لم تعد مجانية بدون حساب، فالمقاومة أصبحت قادرة على الرد والصد، ولديها القدرة على إيلامه وإيذائه، وما بات يعلمه أكثر أن غزة لم تعد له ليلاً ولا نهاراً، ولا أرضاً ولا سماءً، ولا براً ولا بحراً، والشعب الذي يراقب ويتابع، ويدقق ويلاحظ، ليس في حاجةٍ إلى المليون دولار التي أعلنتها كتائب القسام جائزةً لمن يستدرج ضابطاً إسرائيلياً أو يكون سبباً في اعتقاله وضبطه، ولكنه بالمكافئة قد يتفاعل وينشط، وبالتنافس قد ينجح أكثر، وبهما معاً على العدو أن يقلق ويخاف أكثر.
إنها الحقيقة التي بات يدركها العدو ويعترف بها، ولا يقوى على إنكارها أو تجاهلها، فقد غدت شوكة القطاع قاسية، ومخرزها يؤلم، وبات من العسير على مجموعات المستعربين الأمنية أن تعمل في قطاع غزة بسهولةٍ دون عقباتٍ أو مخاطرٍ، حتى أولئك الذين يتقنون اللغة العربية واللهجات المحلية الدارجة، وأصحاب السحنات الفلسطينية السمراء، باتوا عاجزين عن تنفيذ المهام، أو المغامرة بالدخول إلى القطاع، الذي أصبح بفضل جاهزية المقاومة ويقظة الشعب وحسه الأمني حرماً آمناً، وأرضاً حرةً مستقلةً، يحسب العدو للمغامرة فيه ألف حسابٍ وحسابٍ، لعلمه التام أن المقاومة له بالمرصاد، تراقبه وتتعقبه، وتتابعه وتستعد له.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي