أسباب الاهتمام الدولي بالتراث العلمي

أحد, 11/08/2020 - 16:31

إن التراث العلمي لا يزال مجال عمل ضخم لم يتم». ويدعم صحة هذه المقولة ما تشهده حركة إحياء التراث العلمي منذ عدة عقود من نشاط منظم على مستوى العالم يهدف على إعادة نشر الأعمال الكاملة لكبار العلماء، على اعتبار أنه مسؤولية تستوجب الرعاية والتعاون من جميع الدول، بما في ذلك الدول الغنية من العالم الثالث. فقد حدث أن لجأت الهيئات المسئولة عن نشر الأعمال الكاملة للعالم الشهير «برنوللي» إلى تدعيم جهدها عن طريق الاكتتاب العالم، ويجري حاليًا إعداد طبعة جديدة لهذه الأعمال.

من خلال التعاون بين أكثر من سبع دول، وسوف تصدر أجزاء هذه الطبعة تباعا في نحو خمسة وأربعين مجلدًا. كذلك أمكن إصدار مجموعة الأعمال الكاملة لعالم الرياضيات المعروف «أويلر» عن طريق الاستعانة بإمكانيات ست دول، بالرغم من أن قاعدة العمل كانت تقع جغرافيا في سويسرا.

وقد شرعت الولايات المتحدة الأمريكية حديثًا في تبني هذا المبدأ لإصدار أعمال العديد من العلماء أمثال: «جاليليو» في إيطاليا، و«نيوتن» في إنجلترا، و«جاوس» في ألمانيا، و«ديكارت» و«لابلاس» و«لاجرانج» في فرنسا، وغيرهم. ولا ينبغي أن يدهش المرء لطول الوقت الذي يستغرقه إنجاز مثل هذه المشروعات، ناهيك عن ضخامة التكلفة، فقد استغرق إصدار أعمال عالم الرياضيات الشهير «كوشي» أكثر من خمسين سنة.

ويواكب هذا الاهتمام العالمي بعملية إحياء التراث العلمي نشاط مكثف لمعالجة قضايا تاريخ العلم، تتجلى مظاهره في إنشاء الأقسام والمؤسسات الأكاديمية المتخصصة في الكثير من جامعات العالم، وإصدار أكثر من مائة مجلة دورية متخصصة في تاريخ العلم ككل، أو في موضوع محدد من موضوعاته، أو في مرحلة زمنية معينة من مراحل تطوره عبر العصور. يضاف إلى ذلك ما يعقد من مؤتمرات دولية في تاريخ العلم بصورة دورية تقريبا كل ثلاث أو أربع سنوات، منذ عام 1929م، وقد بلغت حتى الآن واحدًا وعشرين مؤتمرًا، عقد أحدها في القدس عام 1953م، وكان آخرها في المكسيك عام 2001م وعنوانه "العلم والتنوع الثقافي".

ولا نجد في تعليقنا على هذا العرض الموجز لخريطة الاهتمام العالمي بقضايا التراث العلمي أفضل من كلمات «جان دومبريه» التي تقرر وجود فجوات واسعة في الأعمال التي تضمنتها هذه النشاطات، إذ ليس للعلماء غير الغربيين أي وجود بها، كما أنهم لم يحظوا حتى بالإعلام بأي أسلوب شامل.

 وفضلا عن ذلك فإن علماء الرياضيات والفلك يظهرون بصورة أبرز من التي يظهر بها الجيولوجيون وعلماء التاريخ الطبيعي عمومًا. وهذا يؤدي إلى الانحياز بصورة منفردة، فنحن اليوم لا نزال نعرف شارحي إقليدس، بدءًا من ثابت بن قرة إلى أديلارد البائي، ومن جيرار الكريموني إلى عمر الخيام الذي لا يمكن إنكار أنه كان أيضًا مبدعًا وشاعرًا وعالما في الرياضيات.

ونضيف من جانبنا أن هذا التحيز الواضح في الاهتمام العالمي بتراث العلماء الغربيين دون غيرهم يجب أن يقابله جهد مكثف من جانب أصحاب الحضارات المختلفة التي أسهمت في صنع التقدم العلمي والتقني عبر الأجيال، وخاصة أبناء الحضارة العربية الإسلامية التي ظل علماؤها الرواد لأكثر من ثمانية قرون طوال يشعون على العالم علما وفنا وأدبا ومدنية، ولا نعرف اليوم شيئا عن أغلب مؤلفاتهم ومخطوطاتهم المفقودة، أو التي لا تزال بكرًا في مظانها المختلفة بأنحاء متفرقة من العالم، تنتظر من يتولى البحث عنها وإحيائها لتحظى من جموع الباحثين بدراسات تحليلية معاصرة.

وليس هناك من شك في أن مثل هذه الدراسات التراثية للعمل الإنساني من شأنها أن توضح أهمية التحليل المنطقي لتاريخ العلوم وتقنياتها، فلا يمكن لأي باحث منصف مدقق إلا أن يضع النشاط العلمي والتقني في سياقه التاريخي العام، على اعتبار أن هذا النشاط عملية ممتدة ومتصلة خلال الزمان، ولن يوجد فهم واقعي للعلم بدون نقد متواصل له، فليس ثمة معرفة إنسانية لا تفقد طابعها العلمي متى نسي الناس الظروف التي نشأت في أحضانها، وأغفلوا المسائل التي تولت الجواب عليها، وحادوا عن الهدف الذي وجدت أصلا من أجله، ومن هنا يستحيل الفصل بين التراث العلمي ومراحله التاريخية، نظرًا لأهمية تاريخ العلم في صياغة فلسفة العلم ونظريته العامة وإذا ما ران على العلم جهل بتاريخه، فإن لا محالة مخفق في مهمته.

وإذا كانت الخبرة الإنسانية تدعونا إلى الاعتبار بدروس التاريخ، فإن تاريخ العلوم لا يدلنا فقط على المراحل الزمنية للتغيرات التي شهدها، ولكننا نتعلم منه أيضًا أن المشكلات والقضايا العلمية التي تواجهنا الآن ليست جديدة تمامًا، فالأساليب التي عولجت بها هذه القضايا في ظروف مغايرة عبر العصور لن تخلو أبدًا مما يمكن أن نفيد منه اليوم وغدًا.

 ولذا فإن أية نظرية تطرح لنقد العلم قديمًا وحديثًا تكتسب أهميتها من المبررات المنطقية التي تقدمها كمسوغ لإعادة قراءة تاريخ العلوم في ضوء المرحلة التي يبلغها من تطوره على أساس ما يستجد دائمًا من أفكار تتعلق بالجوانب المختلفة لنظرية العلم والتقنية، بحيث تجعل من هذه القراءة المعاصرة أساسًا لتحليل الواقع واستشرافا لآفاق المستقبل.

ومن هنا نعثر على السبب الحقيقي وراء الاهتمام العالمي المتزايد بإعادة تحليل تاريخ العلم والتقنية برؤية موضوعية قدر الإمكان من خلال المؤسسات الأكاديمية والمجلات الدورية والترجمة والتأليف وإحياء تراث الإعلام في فروع العلم المختلفة.

ومن هنا أيضا تظهر بجلاء أهمية إحياء التراث العلمي للحضارة العربية الإسلامية، والعودة من خلال الدراسات التأصيلية بالعلوم التخصصية المعاصرة إلى جذورها في المجتمع الذي كان شاهدًا على ميلادها، والتعرف على طبيعة الظروف التي سمحت للمفاهيم والأفكار الوليدة أن تنمو وتزدهر، وتصبح بعد ذلك فروعًا في شجرة المعرفة، وروافد لا غنى عنها لتغذية الحضارة الإنسانية؛ ذلك بعد الحقائق العلمية ليست كلها على درجة متكافئة من الأهمية والدلالية عندما يتناولها المؤرخ بالتحليل والتفسير في أي عصر من العصور، كما أن قيمة العلماء ومكانتهم تتحدد بقيمة القوانين والنتائج العلمية التي يتوصلون إليها، وبمدى أثرها في دفع مسيرة التقدم العلمي والحضاري.

حتى عندما نتناول القضية من منظور قومي فيما يتعلق بالتراث العلمي العربي، فإننا نجد ما يناظرها بشكل خاص في أوروبا حيث يحظى تاريخ العلم الأوروبي اليوم باهتمام متعاظم من أجل تأصيل الثقافة العلمية الأوروبية. وطبقًا لما جاء في تقرير عن ندوة «تاريخ العلوم والثقافة العلمية في أوروبا» التي عقدت في فلورنسا عام 1991م للبحث عن جهود إحياء التراث العلمي في أوروبا المعاصرة والمكانة التي يمكن أن يحتلها تاريخ العلم والتقنية في المجتمع الأوروبي المعاصر، جاء في هذا التقرير أن العلم والتقنية ينظر إليهما كمكونات أساسية للعزّة القومية: لذلك فإن التأريخ لهما يميل عادة إلى اتخاذ شكل «الدفاع والمباهاة» فيما يتعلق بالمجتمعات العلمية للبلد المعني، ومن سماته المثيرة في معظم البلدان الأوروبية ميله إلى النمو في إطار قومي بالضرورة، على الرغم من العديد من اللقاءات والصلات الدولية القائمة بين الباحثين. ويتجلى الانحياز المقصود، أو غير المقصود، بوضوح عند مؤرخي بلد ما عند اختيارهم لموضوعات البحث، مثال ذلك: الثورة الصناعية (الصلب والبخار والمنسوجات) في إنجلترا خلال القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وصناعة الحديد والصلب في السويد في القرن الثامن، والميكانيكا والهيدروليكا في إيطاليا في عصر الاكتشافات، وهلم جرا.

 والنتيجة الواضحة لهذه الظاهرة هي صورة مشوهة لتطور العلم والتقنية في أوروبا، وهي تشبه منظرًا طبيعيًّا لا تظهر فيه سوى قمم الجبال.

كذلك أشار هذا التقرير الهام إلى وجود قدر كبير من الغموض يحيط بموضوع «الأسلوب القومي في تاريخ العلم» وتعدد الرؤى حول مشاهير العلماء في ضوء التعددية الثقافية الأوروبية، واعتبرت الندوة هذا الموضوع جديرا بالبحث المنهاجي.

كذلك يوجد طوائف أخرى كثيرة من العاملين الذين يهمهم هذا الأمر، مثل صانعي القرار السياسيين ومستشاريهم، والمتخصصين في دراسة السياسات العلمية، ورجال الاقتصاد، ومحللي الابتكارات الذين يسعون إلى الحصول على معلومات وأدوات تمكنهم من مواجهة المشكلات المعاصرة، بل إن أعضاء هذه الندوة يرون أهمية قصوى لتاريخ العلوم وتقنياتها بالنسبة لجميع فئات المجتمع في الريف والحضر، باعتباره يمثل الحد الأدنى من المعرفة بعلم التاريخ وفلسفته العامة وبجوانبه الاجتماعية والسياسية والعلمية، من أجل ممارسة صحيحة لحق التصويت.

والآن، تُرَى هل يمكن أن نجد شيئا يخصنا فيما ذكرناه عن مظاهر وأسباب الاهتمام الدولي والأوروبي بقضايا التراث العلمي؟! ذلك الاهتمام الذي أخذ في الازدياد بصورة تلفت النظر خلال العقود القليلة الماضية، وخاصة بعد أن أظهرت الدراسات المتعلقة بتاريخ العلم وفلسفته أن الباحث الجيد هو الذي يكون على دراية تامة بأحدث ما توصل إليه زملاؤه في مجال تخصصه، وأن يكون في الوقت نفسه ملمًا إلمامًا كافيًا بأصول المفاهيم العلمية المتصلة بموضوع بحثه، وذلك من خلال متابعته الدقيقة لطبيعة نموها عبر مراحل تطورها.

 وهذا يعني أن الجمع بين الأصالة والمعاصرة في العلوم الطبيعية يعتبر من أهم سمات الباحث المتميز الذي يكون بلا شك أقدر من غيره على ممارسة البحث العلمي برؤية أعم ومنهج أصوب وذوق أرقى

بقلم: عمر دغوغي الإدريسي مدير مكتب صنعاء نيوز بالمملكة المغربية.

Share

أخبار موريتانيا

أنباء دولية

ثقافة وفن

منوعات وطرائف