المشهد الدرامي الذي تتناقلها وسائل الإعلام العالمية حول سيطرة طالبان على كابول، والهروب الجماعي لسكانها الى المنفذ الوحيد لها وهو المطار، وتدافع الناس أمام عجلات الطائرة للحصول على مكان آمن، اختبرناه في العراق وعشنا لحظاته ولكن بسيناريو مختلف، عندما دخل داعش الى الموصل وأعلن دولته الاجرامية في العاشر من حزيران من عام ٢٠١٤.
الهروب المذل للقوات الافغانية المدججة بأحدث انواع العتاد والسلاح الأمريكي امام عصابات طالبان، هو الآخر يعيد لنا مشهد هروب الجيش العراقي الذي قدر عدده على الاقل ٣٠ الف عنصر مع ترك كامل عتاده الى جماعة داعش التي لم تكن أكثر من ٢٠٠ عنصر.
الا ان الفارق الوحيد بين المشهدين هو ان الرئيس الافغاني هرب بجلده الى طاجكستان بينما المالكي احتمى بالقوات الامريكية وقام بتفعيل اتفاقية الاطار الاستراتيجي الذي وقعه مع الادارة الامريكية نهاية عام ٢٠٠٨. فالأول لم يجد له منقذ بينما المالكي الذي يختبئ اليوم وراء محور الفساد والإجرام الذي يسمي نفسه بالمقاومة والممانعة وخلف مليشيات الحشد الشعبي استنجد بالقوات الامريكية لإيقاف زحف عصابات داعش الى المنطقة الخضراء.
التباكي على الشعب الأفغاني في واشنطن من قبل زعماء الحزب الجمهوري في الكونغرس امثال ليندسي غراهام وميتش ماكونيل هو أكثر المواقف التراجيدية في المشهد الدرامي الأفغاني، حيث يتناسى اولئك الممتهنين لفن النفاق السياسي، بان ادارة ترامب الجمهورية هي وراء التفاوض مع طالبان في الدوحة، وهي وراء قرار الانسحاب الامريكي المقرر في ايار اي قبل ثلاثة اشهر من الموعد الذي تاجل الى أيلول من هذا العام من افغانستان، وكلا المنافقين هم من وقفوا في مساندة ترامب ودعمه في الانتخابات والتمسك بادعاءات تزوير الانتخابات. الا ان تباكيهم اليوم على الأوضاع أفغانستان هو ما يضفي المشهد الدرامي على تصريحاتهم الرومانسية والحزينة على الشعب الافغاني، وتصب في خانة المزايدة السياسية ضد ادارة بايدن ومحاولة لإظهارها فاشلة أمام الرأي العام الأمريكي من أجل تسجيل نقاط لصالح استحقاقات انتخابية. وهذا ما يبين ان الطبقة الحاكمة في واشنطن من ديمقراطيين وجمهوريين متفقين على استراتيجية واحدة، وهي التفرغ لردع الصين وروسيا، واعادة أفغانستان الى حضن الجماعات الاسلامية الارهابية لتهديد العالم وخاصة منافسيها الأعداء روسيا والصين. فكما قلنا من قبل ان روسيا والصين أكثر الدول التي استفادت من الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، اذ منع تحولها إلى ساحة للتدريب والمشورة والتوجيهات والدعم اللوجستي والمعنوي في نشر الافكار الاسلامية وتجنيد الجماعات وتصديرهم الى مسلمي روسيا والصين، ومقابل ذلك كانت القوات الامريكية تستخدم الأراضي الروسية ومناطق نفوذها للدعم اللوجستي والاستخباراتي في احتلالها لافغانستان.
وهذا يقودنا الى انه افغانستان ليست مثل اي بلد عادي، من الممكن الاستفادة منها كمنطقة نفوذ ووتتصاع عليها الدول العظمى، وتفسر هذه المعطيات سبب انسجامها الذي جاء في بيان مجلس الامن بعدم الاعتراف بطالبان ما لم ترى أفعالها في منع الجماعات الاسلامية الاخرى من داعش والقاعدة للانطلاق منها واستخدام افغانستان كقلعة لنشر الارهاب الاسلامي على صعيد العالم، وتسجل سابقة نادرة في سجل الصراع على المناطق النفوذ بين تلك الدول.
بيد ان الحقيقة الواضحة ولا لبس عليها ان من رعت الجماعات الاسلامية الارهابية هي الادارة الامريكية، وهي من مولت ودعمت ماليا وعسكريا اسامة بن لادن وجماعته وما سمي بمجاهدي الافغان، وكان السفير الامريكي في القاهرة يجند الشباب (العربي المسلم) للقتال الشيوعية في أفغانستان ضد الاحتلال السوفيتي، وكان كل يوم تحل طائرة سعودية في إسلام آباد وهي تحمل المجندين الشباب تحت عنوان إرسال الاستغاثة والمساعدات الانسانية الى الشعب الأفغاني المسلم. ان من حول أفغانستان الى قلعة للارهاب الاسلامي هي الولايات المتحدة الامريكية منذ حقبة الثمانينات، وقد دفع الشعب الأفغاني ثمن لتلك السياسات، وأثناء مرحلة الاحتلال فلم تقدم أكثر مما قدمتها في العراق، واليوم تعيد الكرة نفسها وتعيد الامور السابقة الى نصابها.
كل الالحان والاغاني والاناشيد عبر الاقلام الماجورة و الابواق الاعلامية لامريكا والغرب حول نشرها للديمقراطية وحقوق الانسان ترتطم بالمشهد الدرامي الافغاني، وتبين بأنها يافطات تعلق عندما تريد التدخل العسكري والسياسي لتغيير الحكومات التي لا تدور في فلكها، وترمي كل شيء ورائها عندما لا تستفيد منها. وليس هذا فحسب بل ان الولايات المتحدة الأمريكية لم تفي حتى بمسؤوليتها كدولة احتلال، وضربت أمن وسلامة المجتمع الأفغاني بعرض الحائط وسلمت الشعب الافغاني فريسة سهلة وبدون مقابل الى عصابات مثل طالبان التي جاءت من العصور الغابرة.
القاء اللوم على القوات الافغانية بانها لم تقاتل الطالبان مثلما يصرح وزير الدفاع الامريكي لويد اوستن امام مجلس النواب ويبرر التنصل من مسؤولية إدارته من مما حدث في افغانستان، او كما جاء في كلمة بايدن بانه لن يخوض حربا اهلية نيابة عن الجيش الافغاني، يشبه ما ذهب اليها ادارة اوباما انذاك و المالكي عندما رموا المسؤولية على الجيش العراقي اثناء هروبه دون قتال أمام داعش. الا ان الحقيقة التي يحاول هؤلاء اخفائها، بأن امثال اشرف عبد الغني ونوري المالكي لم تَدّّوَنَ اسمائهم في سجل زبالة التاريخ لو لا الولايات المتحدة الأمريكية. والولايات المتحدة الامريكية لو لا تعلم عملائها في دروسها الاولى على اسس النهب والسرقة وممارسة كل اشكال الفساد، فلن تؤهلهم الى تبوء المراكز القيادية في البلدان. فكما كان الجيش العراقي، كان ايضا الجيش الافغاني، وكما قيل هناك فضائيين في الجيش العراقي، كان هناك فضائيين في الجيش الافغاني وقدر عديد عناصره ٣٠٠ الف جندي، لكن الحقيقة كانت هي اقل بكثير من العدد المعلن حسب تصريحات المسؤولين الأمريكيين. ما نريد ان نقوله ان اساس هزيمة الجيش الأفغاني كما كان العراقي هو سياسة أمريكا في تحويل الحثالات الاجتماعية الى سياسيين من الدرجة الاولى عبر التوظيف الإعلامي ورسم هالة كاذبة وخادعة حولهم. وليس هذا فحسب، فكما كانت الولايات المتحدة في العراق، كانت في افغانستان، حافظت على كل الإرث الرجعي والانحطاط الاجتماعي والسياسي عبر التمسك وتأهيل الجماعات الاجرامية من القبائل والعشائر ورجال الدين وتاسيس حكومات وسن دساتير بما يضفي الشرعية على وجودها في الوقت الذي لم تحرك ساكنا تجاه مستقبل المجتمعات ولا تبالي لها. فهي بمناى عن ردم المستنقعات والمياه الاسنة، بل راحت تحافظ على بنية اقتصادية متهالكة وبنية اجتماعية منحطة دون أي مساس ولا مبالاة، وتأسيس نظام حكم على نفس الأسس الاجتماعية والاقتصادية التي تستند عليها العشائر والقبائل والجماعات الرجعية من كل حدب وصوب، مع اضافة رتوش عليه وتجميله بشكل كاذب عبر ما يسمى تنظيم انتخابات شكلية ودق الطبول لها. وهذا ما افشاه اليوم بايدن عندما قال لن نذهب الى افغانستان (لبناء دولة)، اي تعترف الادارة الامريكية بأن سياستها وراء نفخ الروح بجماعة منقرضة مثل طالبان، وبعثها من جديد.
تسليم أفغانستان الى طالبان الذي يقابله تسليم ثلث مساحة العراق الى داعش، سيعمل على تقوية الإسلام السياسي، وتعطيه فرصة جديدة لتعويض انحسارها وهزيمتها في مصر وتونس وسورية والعراق بعد هزيمة مشروعها الدولة الخلافة الاسلامية والقاعدة والاسلام المعتدل في تركيا وعابر للقارات في إيران. وكلنا نتذكر كيف كان اعلان دولة الخلافة الاسلامية في العراق وسورية، جددت البيعة للاسلام السياسي على صعيد المنطقة وحتى العالم، وكيف تمدد ارهابه الذي لم يسلم منه اية بقعة من الارض، هذا السيناريو سيتكرر ولكن بشكل أكثر دراماتيكي، وتتقوى كل الأفكار الرجعية والعفنة المعادية للمرأة والحقوق الاساسية للبشر خاصة في منطقتنا.
ان استبدال الاحتلال الامريكي لافغانستان بجماعة طالبان ليس انتصار لجماهير افغانستان كما يحاول ان تصوره الجماعات المعادية لامريكا مثل يذهب إليه قسم من اليسار سواءا التحف لباسا قوميا أو ثوبا متهرئا ماركسيا ومجموعة محور الإجرام والفساد في العراق ولبنان واليمن ومن لف لفهم. وبخلاف ذلك ان الاحتلال الامريكي هو وراء تأهيل طالبان، ولم تكن الادارة الامريكية التي اوعزت باحتلال أفغانستان بعد أحداث الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١ على خلاف مع طالبان، بل طلبت تسليمها لأسامة بن لادن وقيادات القاعدة المتورطة بتفجيرات نيويورك وواشنطن، الا ان الاخيرة رفضت تسليمهم، لتستخدمها ادارة بوش الابن ذريعه في اجتياح افغانستان. والولايات المتحدة الامريكية هي في مقدمة الدول الأربعة التي اعترفت بحكم طالبان عندما اجتاحت كابول عام ١٩٩٥ الى جانب باكستان والامارات والسعودية، الا انها سرعان ما سحبت اعترافها بعد ضغط المنظمات الحقوقية عليها. وبعد عقدين من الزمن من الاحتلال الامريكي واقصاء طالبان عن السلطة، تبين الوقائع ان الولايات المتحدة الامريكية احتفظت بشعب افغانستان كوديعة عندها، وردتها إلى جلاديها بعد الانتهاء من مهمتها.
وأخيرا نشير إلى مسألتين مهمتين؛ اولا من يتصور الامن والاستقرار والأمان والرفاه والحريات تاتي عبر سياسات امريكا وتدخل جيوشها والاستقواء بها، فقد قرر تسجيل اسمه في سجل الحمقى التي تدونها اقلام مأجورة امريكية، فها هي افغانستان التي اعيد الى حكم الإرهاب والفاشية، وها هو العراق الذي اقل ما يقال عنها بلد أقل فشلا من أفغانستان.
أما المسألة الثانية علينا كتحررين ومدافعين عن قيم الحرية والمساواة رفع الاستعداد السياسي والفكري والعملي في مواجهة الهجمة اليمينية على تصورات وأفكار البشر التى ستشتد على اثر تداعيات اعادة طالبان الى السلطة في افغانستان، والدفاع عن القيم الانسانية والوقوف بوجه مقايضة الاحتلال الامريكي وسياساته المجرمة والعبثية مقابل جماعات اسلامية مجرمة مهما كان عنوانها” طالبان او داعش او القاعدة او محور الاجرام والفساد تحت يافطة المقاومة والممانعة.
سمير عادل