أحمد الحسني
فارس على معصميك أثر من قيود السجان، وعلى أوصالك نقش من سياط الجلاد كجدائل جنوبية حرة، تختصر حكاية وطن وقضية، يناغم شهيقك طيف كربلائي وزفيرك القداح منه، وصدى ترنيمة منك كتسبيحات فاطمة، أمام الطغاة ذراع ثائر رفع تكبيرة الإحتجاج ما بين محراب ونافلة، قلب متماسك آمن بالنتائج وهادئ بيقين وسكينة كأنك الصلاة، دمائك وأوصالك للأمة علامات الطريق، فأن تغادر كالشمس عند الغروب، تخلف سمائك النجوم نور العلامة والدلالة.
شهيد المحراب من أزقة الغري فارس وميدان، وفي ألأمة خليل الشجعان، الصارم العقوف والقاطع الذالق الفرح ما إن خرج من الغمد، وما بين المقبض والنصل ورِئاسِه، ساقيته الثائرة الغاضبة، والضابط ألأمين مابين دفتي التأريخ ومداد كتابته، مغبة أن تكون أمة مريضة تخشى السيوف وظلال السيوف، وتمقت المجد إن كان بين ركائب ألأدهم والكميت، فتجف عن العطاء كما تجف أوراق الشجر اليابس، أو تموت بها حياة الكرامة، أو تعيش جذورها المتشابكة على غير أرضها ومن المريض منها، أو خائرة منهزمة يأكل فكرها الصدأ.
ألأمة المنهزمة تلك التي تعيش تأريخها بلامواقف، مترفة بحضارة من الوهم، سريعة ألإستغناء عن هويتها وماضيها، ومحنتها أجيال مقيدة مستسلمة بلا تضحيات، فحين أراد الطغاة ومن أدواتهم الدموية القذرة سقي ألأرض والوطن بماء صديد، كانت تلك ألأزقة ومحاريبها المتعاقبة كخرزات المسبحة، سقياها المعين النابض بالحياة، كشفت ظلمة الدروب، وأغرقتها في الحقائق والثوابت، وأوجدت بألأمة العزيمة والصواب، وبددت عنها دواعي الحيرة، وأنهار على يديها ركن الباطل.
شهيد المحراب صعقة تعيد للأجيال حياتها في ماض ثر، كي تعيش حاضر غر، أريد جرفه بمعاول الحضارات الهدامة، ومن ثم جعلها عاجزة لا تقرأ كلمة المجد أو كلمة الكرامة، مغمورة محكومة بالتخلف والتردي، وما إن كان الجلاد ظلامها الدامس وأمة ضعيفة نائمة تلتحف ذل الطغاة، وتقع ضمن مشروعه في سلب أرادتها وجعلها عمياء بلا تأريخ، يجمع شتاتها نشيد جنائزي ويفرق مواقفها اليأس وألإنهزام.
كنت صبحها الضحوك وكانت سفينتك المشرعة المنسجمة مع الطفوف، قد لحق بها الباحثين عن الموقف حذراً من أن يغرقهم التأريخ، فيما تخلف عنها من أدركها ترسو بين الركن والمقام في توأمة رائعة لا يرتقي اليها المتجبنون، فمن قباب الغري الى قصب الجنوب، وبريقيهما مع الشمس، وعروج منبري بين أسوار الطفوف كي تصنع من لونيهما رصاصة، تؤسس المضمار وتسجر الحامية التي أذلت حديدهم، فجعلت لونهم الرماد، وماكنتهم هشيما تذروه الرياح.
لقد كان مشروع شهيد المحراب ومن بعده في ألأثر، هو صيانة ألأمة ومعالجة مواضع الهشاشة، والمقتحم ألأشوس لأسوار الثقافات البالية وحصون الجهل، عبر مشروعه السياسي الملموس وما فيه من حيوية بالغة، وفق نظرية القيادة الحقيقية التي تمتد الى مدرسة آبائه وأجداده، لحفظها من التشرذم، وجعلها أمة تؤثر بحضارتها ولاتتأثر بغثاء السيل من حضارات قتلت شعوبها، فرصة ثمينة أمام ألأجيال أن تقف بإمعان عند هذه القيمة الوطنية، حري أن ترتوي من معينها العذب، وإيفاءً للتأريخ الجديد حق وحفظ كتابته.