صباح الزهيري
الذي يقضي الشتاء في مصر خلال الكانونين الأول والثاني من السنة حيث أعتدال الجو وحلاوة النسمة بما يشابه الربيع اللبناني يتفاجأ بقسوة برد الشتاء العراقي , شعرت بذلك عندما حطت بي الطائرة العائدة من القاهرة يوم أمس , ولما كان لا يوجد شتاء يدوم إلى الأبد , ولا ربيع يتخطّى دوره , فقد راق لي ان اسطر هذه المقامة .
قديما قالت العرب عن برد بلادهم :
وإذا الشتاء أتى يجرجر ذيلهُ والليل ينفثُ برده ويجوبُ ....
فاهرع إلى ذات الدلال وضمّها فهناك بالحضن الحنون تذوبُ ,
ويقال أن البرد يشبه الغياب , لذلك لا تتعجب إن رأيت أحدهم يرتجف قرب النار فبرد الروح أقسى , وكانت العرب تستدفئ بالنساء في فصل الشتاء , فضم الحبيب فيه دفئ و سعادة , كما انه يزيل التوتر ويقضي على التعب والارهاق , لذلك تراهم كانوا يحبون الفتاة المليئة ) المعباية الملفوفة لف ( فهي دلالة على غناها , وعلى حياة الرفاهية التي تعيشها , ولأنها تدفيء , ومن أجمل الأبيات الخليجية عن الشتاء :
البرد يستوطن ضلوع العاشقين والليل موحش لا ونيس ولا دفا....
يا شينها لاهبت رياح الحنين على نهاية صيفٍ وبداية شتا )) .
وقديما أيضا كانوا يقولون (( النار فاكهة الشتاء )) حيث مواقد الحطب القديمة في غرف المعيشة حين تجتمع العائلة , فتكون النار أجمل ما في فصل الشتاء كونها تجمع الناس , وكانت هناك أمثال كثيرة ترافق فصل الشتاء مثل (( البرد بيقص{يقطع} المسمار )) , في الدلالة على شدة البرد , ويعزى للبرد التسبب بالأمراض (( البرد سبب كل علّة )) ليأتي تعبير (( الدفا (الدفء) عفا (عافية) ولو بعز الصيف )) مؤكدا أن البرد يسبب المرض , و(( خبي خشباتك الكبار لعمك آذار)) , لأن البرد قد يفاجئ الناس من دون إنذار.
وفي حسجة التهويمات : آه لو تعلم كم يدفئني بردك , ويلهبني جمر حبك , وترويني قطرات شتائك , وتنعشني أنسام رياحك , وتمتعني ألوان طيف قزحك , تتناثر قطرات المطر بهدوء ورقة , وكأنها تهمس في آذاننا بصوت خافت : تفاءلوا , ما زالت الحياة مستمرة , ومازال الأمل موجوداً , دعني ألتقط حبات البرد وإن كان بأنامل مرتجفة لأصنع لي عقداً يثلج صدري , وحينما يذوب من حرارة الحب لن يجففه شيء , فهو قد ذاب بنبض وريدي وشريان قلبي , فما عاد للبرد مكان , وما عاد للشتاء عنوان , فالمطر والبرد والثلج والرعد والبرق لغتي وحبي وعشقي .
يقول شاعرنا الشعبي :
(( يفززني البرد وأشبع دفو بـ طاريك )) , أو :
(( من مرني ليل الشــتا واني بأمس شوفتــك ..
احتاريت ادفي البـرد مدري احضن بصورتك )) ,
(( جا يمته البرد يلفيك وتوازيني علشبكة ؟)) ,
ورغم هدوء ليالي الشتاء إلا أنك تجد ضجيجاً داخل قلبك أينما ذهبت , وكأن نسمات الشتاء تأخذ أحزان قلوبنا معها عندما تهب , وكما قالت إليزابيث كامدن :
(( قد يبدو أنّ كل شيء ينام في الشتاء , ولكنه في الواقع وقت للتجديد والتأمُّل )) , و (( مرحبا بالشتاء . فجرك المتأخر وأنفاسك الباردة تجعلني كسولًا , لكني أُحبّك رغم ذلك )) حسب ماكتبه تيري جيليميتس.
قال أمل دنقل :
يا عصافير الشتاء لا تلوميني إذا الطوفان جاء , وقال فيودور دوستويفسكي: (( الشتاء بارد على من لا يملكون الذكريات الدافئة )) , أما أنطون تشيخوف فقد قال : (( إن الذي لا ينتبه إن كان الفصل صيفًا أو شتاء فهو شخص سعيد)) , أما انا فأحبّ أن أجلس مع بطانيّتي وكتابي , وبجانبي ضوءٌ خافتٌ , والجوّ يبعث على الرّاحة النّفسيّة المطلقة , فأستمتع بهذه اللّحظات الثّمينة الّتي لا تُقدّر بثمن , فوحده الشتاء قادر على تعرية الجميع , وقادر على رسم الصّورة الحقيقية لكل إنسان , هو فصل الحقيقة الخاوية من التزيين , فصل الحبّ الصّادق أو الابتعاد الصّادق. وأنا أرتجف من البرد تذكرت ما رواه ابن المقفع قبل الذهاب إلى التنور: (( صارحه تفقده , انقده ينقلب عليك , في كل خطوة لغم عداوة ينفجر تحت قدميك , بينما يداك مغموستان في ماء محبتهم )) , أو كما كتب صديق أدمن برد الفؤاد : (( بمجرد أن أضع قلمي على السطر لأكتبك تنبت ألف بذرة وتخضّر الورقة وتُمطر سمائها حروفاً ويحيطني عطر غاباتك , ماكتبت لك الاّ حلّت ذكراك ضيفاً وأنتزعت قلبي , ووضعت مكانه بين الجوانح باقة ياسمين )) , أولئك اللذين لا يبردون يشهدون من الغيب بقدر صفاء قلوبهم , وهو الصفاء الذي يعتمد على عنايته بجلاء القلب وتصفيته ,فكلما أمعنوا في جلائه , شهدوا أكثر ,حتى يصير مدد الغيب في كثافة حضورهم عالم الشهود .