تواصل القوى المتنفذة محاولاتها دفع الدولة نحو منزلق خطير بعيدا عن مفهوم الدولة المدنية، بسعيها الى تأصيل الفكر الطائفي وتقسيم المجتمع عبر إضعاف الهوية الوطنية الجامعة.
وواضح ان التشبث بالهويات الفرعية الجزئية لا يحقق مبدأ المساواة بين المواطنين أمام القانون، والذي نص عليه الدستور العراقي.
وفي حين ينزعج القابضون على السلطة ويتبرمون عند اتهام الدولة بأنها تنحو منحىً طائفيا، تتوجه احزابهم المذهبية إلى تشكيل كتل وأحزاب تدعي المدنية، وتستمر في محاولاتها تضليل الرأي العام وبشكل خاص البسطاء من أبناء الشعب، وإظهار نفسها بمظهر المدافع عن الدين عبر الغاء او تعطيل جوهر ما جاء بقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 والذي يمثل مصدر فخر للعراقيين وللعقل العراقي المتنور. فهي تكرر طرح مشاريع تتعلق بالأحوال الشخصية، والسعي الى إصدار قوانين مذهبية طائفية تقسيميه بغية تفعيل المادة 41 من الدستور، وهي مادة خلافية.
ان من يدفعون في اتجاه تشريع قوانين تعيد العراق إلى حظيرة البلدان المتخلفة، التي تعيش شعوبها خارج مسارات الإنسانية وهي تنتقل الى مرافئ الحضارة والتقدم وكفاية العدل والحريات، ومنها اتخذت بلدان عديدة مسارها في ميدان حماية المجتمع، وتعزيز تماسكه عبر تشريع قوانين متقدمة للأحوال الشخصية.
ان مشروع التشريع الجديد من شأنه اذا تم إقراره ان يحط من منزلة القضاء العراقي الذي كفل الدستور علويته، لمصلحة سلطات مختلفة جديدة تعطي من لا يملك الأهلية صلاحية تسيير حياة المواطنين، مما يخل باستقلال القضاء المكفول في الدستور.
فهذا المشروع يحوّل جريمة الزواج خارج المحكمة إلى فعل مباح، وقد يتيح اعتماد أنماط من العلاقات يرفضها المجتمع. وهو إضافة إلى كونه لا يساوي بين العراقيين أمام القانون، فإنه يعطل المادة (5) من الدستور التي أعطت السيادة للقانون.
ان أحكام المذاهب ليست قطعية وليست من أحكام الإسلام الثابتة، وهي فقهية اجتهادية متغيرة حتى في المذهب الواحد، علما ان هذه المذاهب تختلف عن بعضها. فما يعد جريمة في نظر مذهب معين، مباح في نظر مذهب آخر. لذلك فإن العقل العراقي المتنور عندما أصدر قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، أخذ بنظر الاعتبار أفضل ما موجود في الأحكام الشرعية للمذاهب المذكورة، وبما يحقق مصالح المواطنين عموما. وينبغي لهذا القانون بعد ما يزيد على نصف قرن من اصداره، أن يتطور مع تطور المجتمع ووعيه وثقافته، وتواصله مع ما بلغته القوانين الضامنة لحياة الناس ومصالحهم في مجتمعات الرقي والتقدم العلمي والتقني والنزعة الإنسانية.
وسيتحمل أعضاء مجلس النواب المسؤولية الاخلاقية والتاريخية اذا ما حوّلوا هذا المشروع الى قانون، وستظل الأجيال القادمة التي يغدر بها هذا التشريع اذا اقر، تحمل صورة بائسة وشائنة لهم. كما ان أبناء شعبنا الذين تخطوا عقبات الطائفية والتقسيم، سيرفعون أصواتهم رافضين هذا التشريع الجديد، الذي هو حلقة اخرى في مسلسل الاساءة الى الروح الوطنية الموحدة وإضعافها.